خناقة ساخنة اندلعت في الفضاء الالكتروني بين فريق من المصريين يري أن أوباما أيد بشكل واضح وعلني الانقلاب العسكري في مصر خلال خطابه أمام الامم المتحدة مساء الثلاثاء ، وبين فريق أخر اتهم الصحف الحكومية المصرية – خصوصا "الاهرام" – بتعمد ترجمه حديث أوباما بصورة كاذبة خاطئة توحي بدعمه للانقلاب بعبارة أن (الحكومة المصرية الحالية اتخذت خطوات متناسقة في سبيل الديمقراطية) بينما الحقيقة أنه قال بالنص : (أن الحكومة الانتقالية اتخذت خطوات لا تتناسق مع الديمقراطية التي تحتوي الجميع مثل قوانين الطوارئ وتقييد الإعلام والمجتمع المدني والأحزاب المعارضة) وكذب الإعلام الرسمي وزيفت أبواق السلطة وعي المصريين بهذا التصريح ووجب محاكمة صحفيي الأهرام عن هذا التدليس علي الشعب !.
وحتي أكون منصفا وأتبع الاساليب الصحفية في الدقة والمصداقية عدت للأصل الانجليزي للخطاب كما نشرت صحيفة (واشنطن بوست) لإجلاء الحقيقة ، وراجعت ما قاله أوباما فوجدته يقول بالنص أن الحكومة المؤقتة : "has made decisions inconsistent with inclusive democracy through an emergency law, and restrictions on the press and civil society, and opposition " ، أي أن (الحكومة المؤقتة اتخذت قرارات لا تتسق مع الديمقراطية الشاملة ، عبر قانون الطوارئ ، والقيود على الصحافة والمجتمع المدني والأحزاب المعارضة". ما يعني أنه انتقد الانقلاب .
ولكنه قبل هذا قال أن : (Mohammed Morsi was democratically elected but proved unwilling or unable to govern in a way that was fully inclusive. The interim government that replaced him responded to the desires of millions of Egyptians who believed the revolution had taken a wrong term " . والترجمة أن (محمد مرسي انتخب انتخابا ديمقراطيا ، لكنه أظهر عدم رغبة أو عدم قدرة على الحكم بطريقة تتسم بالشمولية الكاملة ، والحكومة المؤقتة (يقصد الانقلاب) التي حلت محله استجابت لرغبات ملايين المصريين الذين رأوا أن الثورة اتخذت منحنى خاطئا ) !!.
وهنا واضح أن الرئيس أوباما يلعب علي الحبل ويكيل بمكيالين ، ويردد ما يقوله الانقلاب عن استجابته لرغبات (ملايين المصريين) ، حفاظا علي مصالح بلاده سواء حكم مصر الاسلاميين أو مبارك أو حتي الشيطان ، حتي أنه هو نفسه وصف موقف بلاده – في الخطاب – ضمنا بانه (منافق) قائلا : (بالطبع أمريكا هوجمت من قبل كافة الأطراف في ذلك الصراع الداخلي، حيث اتهمت في آن واحد بدعم الإخوان المسلمين، والتخطيط لإقصائهم من السلطة) .
هنا لا بد أن كثيرين يسألون أنفسهم : لماذا غير اوباما موقف أمريكا الرافض ضمنا للانقلاب الي دعم الانقلاب ؟ والادعاء أنه جاء استجابة لرغبات ملايين المصريين رغم حرصه التام علي عدم ذكر كلمة الانقلاب ( Coup) إطلاقا في خطابه وإبدالها بكلمة مخففه هي (الحكومة المؤقتة) أو (The interim government)؟! الاجابة أجراها الله علي لسانه ليكشف لنا حجم النفاق أو البراجماتية (النفعية أو المصلحية) التي تسير عليها السياسة الأمريكية عندما قال : (ستستمر الولايات المتحدة في إقامة علاقة بناءة مع الحكومة المؤقتة بما يعزز مصالحنا الجوهرية مثل اتفاقية كامب ديفيد ومكافحة الإرهاب .. لكننا لن نمض قدما في تسليم بعض المعدات العسكرية وسوف يعتمد دعمنا على التقدم المصري في السعي لطريق ديمقراطي".
ماذا يعني كلام أوباما هذا ؟ .. يعني بوضوح أن السياسة الأمريكية والغربية لا يهمها من أمر مصر إلا شيئين : (الأول) هو حماية أمن اسرائيل و(الثاني) هو حماية مصالحها في مصر وعلي رأسها قناة السويس التي تمر منها بوارجها وسفنها الحربية وتجارة نفطها ، وطالما أن الانقلاب يقوده الجيش القادر علي أن يحفظ لها هذه المصالح فلا حاجة للعداء معه خصوصا أن كافة معدات الجيش المصري وتدريباته أمريكية وفقا لاتفاق المعونة العسكرية .
بل أن حديث أوباما عن أن الرئيس مرسي (أظهر عدم رغبة أو عدم قدرة على الحكم بطريقة تتسم بالشمولية للجميع) يبدو نوع من الانتقام من مرسي .. هل تذكرون مقال المفكر اليهودي نعوم تشومسكي في الجارديان الذي كشف فيه : إن الخلافات بين (الرئيس) مرسي وأوباما أثبتت لأميركا أن مصر لم تعد منطقة نفوذ أمريكي ولن تعود كما كانت في عهد مبارك تنفذ طلبات أمريكا حتي ولو أضرت بالأمن القومي المصري ؟ هل تتذكرون ما قاله تشومسكي من أن مرسي رفض أن يزور أمريكا كي لا يوافق على الجملة التي عرضت عليه ليقولها أثناء المؤتمر الذي كان سيعقد مع أوباما أثناء زيارته لأمريكا وهي "وستعمل مصر وأمريكا على إيجاد حلول لكى ينعم الشعبان الفلسطيني والإسرائيلى بالأمن الدائم والسلام الشامل" والهدف من الجملة هو الضغط على الرئيس مرسي فقط لذكر كلمة (إسرائيل) والتلفظ بها ولو مرة واحدة لتكون اعترافا منه بدولة إسرائيل ؟!
وما يفسر لنا أيضا ضمنا سر هذا التحول الأمريكي الكامل لدعم الانقلاب هو : الحملة العسكرية التي يشنها الجيش في سيناء وتستهدف المسلحين الذين يطلقون الصواريخ علي ايلات والمدن الاسرائيلية ومن ثم تحافظ علي من أمن الحدود الصهيونية ، وكذا دفاع الدولة الصهيونية الشرس عن الجنرال السيسي والانقلاب لحد وصفه بأنه بطل اسرائيل . ولكي نفهم بصورة أعمق مبررات خطاب أوباما علينا أن نعود الي طبيعة السياسة الأمريكية وسياسة الحزب الديمقراطي الأمريكي تحديدا القائمة علي البراجماتية أو المذهب النفعي أو الاعتماد علي ما هو لصالح أمريكا أيا كان متماشيا مع قيم الديمقراطية والحرية أو لا !!.
فلا يجب التعويل بالتالي على الغرب المنافق لكي يقول كلمة حق حول الانقلاب العسكري الذي جرى في مصر أو توقع أن ينتصر الغرب أو ينبري للدفاع عن الديمقراطية أو الشرعية الدستورية، ليس فقط لأن مبدأهم هو البراجماتية (النفعية) التي تبحث عن المصالح بأكثر مما تنتصر للمبادئ، ولكن لأن كافة المؤشرات وردود أفعالهم على فوز الإسلاميين في خمسة انتخابات واستفتاءات مصرية عقب ثوة 25 يناير وفوز أول رئيس إسلامي مصري كانت تشير لتآمرهم مع رموز الدولة العميقة والمعارضة الليبرالية لإفشاله وإسقاطه وتضرر مصالحهم خاصة بعد تركيز الرئيس مرسي علي أن يتفرغ الجيش لعقيدته الاصلية وهي مواجهة العدو الصهيوني .
وعلينا أن نتذكر إن رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو أرسل مسئولي الأمن القومي الصهيوني لأمريكا لمنع الكونجرس أو ادارة أوباما من وصف ما جري في مصر بانه (انقلاب) وعدم وقف المعونة العسكرية ودعم سلطة الانقلاب ماديا ومعنويا بحسب صحف تل أبيب نفسه ، وأن صحيفة واشنطن بوست أشارت يوم 11 يوليو الماضي مع (وول ستريت جورنال) إلى أن أحد الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة لا تسمي ما حدث في مصر انقلابا – بخلاف مصالحها ومصالح إسرائيل - وهو العلاقة الشخصية والودية التي تربط وزيري الدفاع المصري والأمريكي .
فهناك رغبة أمريكية في الحفاظ على نفوذها مع قادة الجيش المصري، أحد المؤسسات الأكثر نفوذا في واحدة من أهم الدول في منطقة الشرق الأوسط ولو بالتضحية بالديمقراطية ونتائج الانتخابات المصرية والتنكر لمبادئ الديمقراطية التي تتشدق بها .
بالنسبة لإدارة أوباما، بحسب الصحف الأمريكية، هم مستعدون للتضحية بمرسي ولكن ليس بالسيسي لأن استبعاد السيسي سيكون من شأنه أن يترك الولايات المتحدة من دون "قناة تواصل قابلة للحياة" مع واحدة من أهم حلفائها في الشرق الأوسط، بحسب قول صحيفة وول ستريت جورنال، وهذا يفسر سر التقلب في الموقف الأمريكي من الانقلاب ثم إعلان أنه ليس انقلابا ! بيت القصيد في الموقف الأمريكي من الانقلاب.. أنهم يتشدقون بالديمقراطية لو جاءت بمن يخدم مصالحهم أما لو جاءت بإسلاميين أو وطنيين لا يرهنون إرادة بلادهم بالمعونة الأمريكية فلتذهب الديمقراطية إلى الجحيم .
أما لماذا أيد أوباما انقلاب السيسي في هذا الوقت تحديدا ، فتقدير الكثير من المحللين الغربيين والعرب يذهب لأنه ليس وليد اللحظة وأن التوقيت له دلالة هي أن الانقلاب يحتاج إلى دعم قوي يقيه الانهيار بعدما استنفد كل طرق القمع الاقصاء والقتل والعزل وبات يشكل عبء علي إدارة أمريكية تدعي الديمقراطية ، فكان لابد من دعمه ، وبنفس الخطاب إرسال إشارات له بتسريع العملية الانتقالية الانقلابية .. أي تسريع سلق الدستور والانتخابات لكي يكتمل فرض الامر الواقع !
بقيت إشارة لافتة لمن صدعوا رؤوسنا ولا يزالون بنظرية المؤامرة بين أمريكا والاخوان وذهب بعضهم للحديث عن تورط الاخوان في مخطط امريكي لتقسيم مصر !! .. حديث اوباما أثبت لهم براءة الإخوان من تهمة دعم أمريكا لهم وأن دعمها الحقيقي هو للانقلاب !!
|