27‏/05‏/2013

[عبدالعزيز قاسم:2630] قراءة في كتاب : الربيع العربي ثورة أم فوضى غير خلاقة

1

 

قراءة في كتاب : الربيع العربي ثورة أم فوضى غير خلاقة



تأليف: د . عبدالحي زلّوم


 

11/03/2013

 

أصدق وصف لحالة العالم العربي هو مثل صيني يشبه الأوضاع السيئة التي نعيشها (كسمكة كبيرة أُخرجت لتوها من الماء تتحرك بعنف علها تستطيع استعادة مكانها ومحيطها . وفي هذه الحالة لاتسأل السمكة إلى أين تذهب بها حركتها التالية لأنها تشعر فقط بأن وضعها الحالي لا يمكن احتماله، وهو أصلاً غير قابل للاستمرار) . هذه هي حال الشعوب العربية هذه الأيام التي سُميت بأيام الربيع العربي .

 

هناك الآن مزيج عجيب من الطاقة الثورية الكامنة في نفوس الجماهير بين قيادات لم ترق إلى طموح تلك الجماهير، وبرامج ضبابية لمن أصبحوا في السلطة والمعارضة على حد سواء، وضيق أفق استراتيجي، وتركات ثقيلة من أنظمة الاستبداد من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنظيمية كافة، وقوى (ثورات مضادة) وجماهير جائعة تنتظر السماء أن تمطر خبزاً وذهباً في يوم أو بعض يوم، وفوضى منظمة تديرها غرف سوداء في الداخل والخارج . . هناك نظام عالمي جديد يتشكل هذه الأيام، وعالمنا العربي والإسلامي هو أحد أكبر وأخطر مسارح صراعاته . لن يكون الوليد الجديد بمواصفات واشنطن ولا غيرها من القوى المتصارعة، وسيأتي من رحم قانون العواقب غير المحسوبة .

 

الحركات التي ترعاها الولايات المتحدة أو التي تُجيرها لمصلحتها كانت بداياتها الحديثة في "ربيع براغ"، ذلك الانفتاح لدولة تشيكوسلوفاكيا الذي مثل خروجاً عن سياسات الاتحاد السوفييتي الاقتصادية والسياسية، وتوالت تسمية الحركات الشعبية العفوية أو الموجهة بأسماء الفصول أو إعطائها لوناً من ألوان "قوس قزح" . كان هناك (ثورة الأرز) اللبنانية التي اعطيت هذا الاسم من وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية Paula J Dobriansky . في مؤتمر صحفي، لإيجاد رابط بينها وبين "الثورة الوردية أمريكية الصنع في جورجيا" (Rose Revolution) أو أختها "الثورة البرتقالية" التي أطلقت على الثورة في أوكرانيا، أو الثورة البنفسجية التي أطلق اسمها جورج دبليو بوش على احتلاله للعراق سنة 2003 .

 

إن الانتفاضات، ولا أقول الثورات، التي شهدتها العديد من الدول العربية منذ سنة 2011 لم تفجرها الولايات المتحدة كما يظن البعض مع أنها حاولت ولاتزال تحاول احتواءها وتجييرها لمصحلتها وفق الخطة (B) والتي تكون جاهزة في إدراج الإمبراطوريات . ونحن اذ لانتهم أحداً بالعمالة إلا أننا قد نتهم البعض بضيق الأفق وغياب الفهم الاستراتيجي لما يدور حولهم أو بواسطتهم من حيث يعلمون أو لايعلمون، دعنا نعط مثالاً صارخاً عما يخبأ لنا في أدراج الإمبراطوريات .

 

في عددها الصادر في 7-5-1979 نشرت مجلة "فورتشن" السيناريو المتوقع للعبة الحرب هذه، حيث وصفت الكيفية التي سيكون عليها رد الفعل الأمريكي في حال قيام العراق بغزو الكويت بسبب النزاعات الحدودية وغيرها . وفي الصفحة ،158 وتحت عنوان "إذا قام العراق بغزو الكويت والسعودية" قالت المجلة: "بمقدور القوات المدرعة العراقية مستخدمة معدات سوفييتية في معظمها، اجتياح أي من الدولتين بكل سرعة . وفي حال طلبها، فإن المساعدة الأمريكية ستكون في البداية"، عبارة عن ضربات جوية تكتيكية ضد القوات المدرعة العراقية وقواتها الجوية - وربما بعض التهديدات بتدمير المنشآت النفطية العراقية . ولطرد القوات البرية العراقية، فستكون هناك حاجة لقوات المارينز من الأسطولين السادس والسابع ولقوات المشاة من الفرقتين ال 82 وال101 وصوّرت هذه الخطة "جيشاً في السماء" لتحريك القوات واستخدام الجسر الجوي الاستراتيجي لقوات سلاح الجو الأمريكي المكون من 70 من طائرات C-5A العملاقة و234 طائرة C-141، الأصغر حجماً إلى جانب 700 من طائرات KC-135 المستخدمة في تزويد الطائرات بالوقود أثناء تحليقها في الجو .

 

أليست هذه هي خطة "عاصفة الصحراء" لسنة 1911؟

 

بصفتها راعية الرأسمالية العالمية ومركزها الأساسي والمستفيد الأكبر منها عبر عولمتها فإن الولايات المتحدة ستبقى تحاول تطويع كافة الدول لتجعل منها جمهوريات موز لخدمة إمبراطوريتها وسادتها الممولين العالميين .

 

كثير من الباحثين الغربيين عموماً والأمريكيين خصوصاً، يرُوجّون أن الإسلاميين يؤمنون بإمكانية عمل صفقة (أو أنها قد تمت فعلاً) بحيث يقوم الإسلاميون بالمحافظة على المصالح الغربية الأمنية والاقتصادية والسياسية كما هي، مقابل تركهم يقومون بخلق مجتمعات إسلامية وحصولهم على مساعدات اقتصادية وسياسية . فإن صح مثل هذا التحليل فذلك يدل على سذاجة ما بعدها سذاجة لأن صلب الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الإسلامية يتناقض بشكل صارخ مع مبادئ العولمة التي تقوم بنشر المبادئ الرأسمالية دونما هوادة، وبذلك فإن مثل هذه الصفقات ما هي إلا زواج متعة لا تدوم طويلاً .

 

أجرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية دراسة عن النظام الاقتصادي في الإسلام وكيف يتميز عن الرأسمالية والشيوعية . وجاء في تقرير:

 

"إن التعاليم الإسلامية تختلف عن الرأسمالية لمعارضتها تراكم الثروات الفاحش، وتختلف عن الاشتراكية لأنها تحافظ على حقوق التملك لوسائل الإنتاج . ففي مجتمع حقيقي يتبع تعاليم الإسلام يجب ألا تتعارض مصالح طبقات المجتمع، بل يجب أن تتعايش بالتواصل والتراحم عبر المشاركة المسؤولة الواعية . كما يجب مراعاة حقوق الفرد ولكن بطريقة عادلة تتوازن مع مصحلة المجتمع بأكمله" .

 

ونقتبس ما قاله شيخ بارونات المال العالميين جورج سوروس في كتابه "أزمة الرأسمالية العالمية": "أما كون الرأسمالية العالمية نظاماً غير محسوس، فذلك لا يجعلها أقل أهمية . فهي تتحكم في حياتنا كما يتحكم أي نظام بشعبه، ويمكن مقارنة الرأسمالية العالمية بإمبراطورية أكثر عالمية في شموليتها من أي إمبراطورية سابقة . فهي تحكم حضارة بأكملها، وبالإضافة لذلك فهي، كأي إمبراطورية، لها مركز يستفيد على حساب دول الأطراف . والأكثر أهمية، هو أن الرأسمالية العالمية تظهر ميولاً إمبريالية . فهي لا تتطلع إلى التوازن، ولكنها تقوم على التوسع، ولا يهدأ لها بال مادام هناك أسواق أو موارد لم تصلها" .

 

الدراسات الأمريكية الواردة في هذا الكتاب تبين بوضوح أن دوائر القرار في الولايات المتحدة بدراية كاملة على أدق تفاصيل التناقضات الداخلية في كل قطر عربي، وأنها تسعى لتجيير تلك التناقضات لخدمة مصالحها الاستراتيجية، مستعملة نار الفتنة كما يلزم بواسطة (زلمها) في الحكم والمعارضة على حد سواء لتمنع تحول الانتفاضات إلى ثورات . فهي لا تتمنى خيراً لأي مشروع وطني إسلامياً كان أم قومياً .

 

قال صامويل هانتغتون في كتابه (صراع الحضارات): "إن المشكلة بالنسبة إلى الغرب ليست مشكلة الأصوليين الإسلاميين، بل المشكلة في الإسلام نفسه، الذي يمتلك حضارة مختلفة يؤمن أصحابها بتفوقها في الوقت الذي يتألمون من ضعف أحوالهم . والمشكلة للمسلمين هي ليست وكالة المخابرات المركزية أو وزارة الدفاع الأمريكية، المشكلة في الغرب نفسه ذي الحضارة المختلفة والتي يؤمن أصحابها بتفوقها وصلاحيتها كنظام عالمي، يرغبون في فرض هذه الحضارة على العالم .

 

المقدمة

 

إنها نكتة العصر: الولايات المتحدة تسعى لتحفيز وتجذير الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي . أما ما تسعى إليه الولايات المتحدة حقاً عبر أدوات عولمتها فهو تحويل دول العالم باجمعه إلى جمهوريات موز لخدمة الإمبراطورية الأمريكية وأباطرتها الحقيقيين بارونات المال العالمي (اللصوص إيّاهم) الذين اغرقوا العالم بأوراقهم المالية الفاسدة التي أسموها المشتقات Derivatives . وكان أفضل من وصف هذا الوضع هو البروفيسور الأمريكي في جامعة كولومبيا والحائز جائزة نوبل في الاقتصاد Joseph Stiglitz في شهادته في الكونغرس الأمريكي حين قال: "المشتقات المالية اعتمدت على مبدأ أن هناك أحمق يولد كل دقيقة . أما العولمة فاعتمدت على مبدأ أن العالم قد أصبح مسرحاً للتفتيش عن هؤلاء الحمقى، وقد وجدوهم في كل مكان" . إن الولايات المتحدة هي مركز الرأسمالية وهي الاداة التي يستعملها بارونات المال العالميين لنشر مبادئ الرأسمالية لا الديمقراطية . فالرأسمالية والديمقراطية ضدان لا يلتقيان . هذا ليس قولي فقط ولكنه قول شيخ الرأسمالية الملياردير جورج سوروس، كما جاء في كتابه "أزمة الرأسمالية العالمية" يقول:Soros

 

زالرأسمالية والديمقراطية يتبعان قوانين مختلفة . . المصالح التي تخدمها الرأسمالية هي المصالح الخاصة، أما المصالح التي تخدمها الديمقراطية فهي المصالح العامة، وهذا التناقض يلخصه المثل الدارج عن تناقض المصالح ما بين Main Street ويعني المصحلة العامة وWall Street أي المصالح الخاصة" .

 

وتدّعي الولايات المتحدة أنها تحاول دمقرطة الأنظمة الشمولية التي تعتمد أساسا على Bجهزة مخابراتها في التضييق على الحريات وإدارة الدولة . فإذا كانت هذه هي الدولة البوليسية، فهل نستطيع أن نعتبر الولايات المتحدة دولة بوليسية كونها تمتلك جبروتاً من (16) جهازاً للمخابرات؟ لكن هذا ما أوحت به كبريات الجرائد الأمريكية "الواشنطن بوست" في تحقيق صحفي عبر ثلاث مقالات استغرق تحضيرها سنتين وعمل خلالها (20) من كبار صحافييها . كانت المقالة الأولى بتاريخ 19-7-2010 التي جاء فيها:

 

* هناك (1271) مؤسسة حكومية تساعدها (1931) شركة تخدمها ضمن أجهزة الاستخبارات، والأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب

 

* وهناك 854 ألف شخص ضمن هذه الاجهزة ممن يحملون تصاريح بالاطلاع على التقارير "سرّي جدّاً" وهذا العدد يزيد مرّة ونصف المرة عن عدد سكان العاصمة واشنطن .

 

* هناك 33 مركزاً في واشنطن وحدها مخصصة لاعمال المخابرات السرّية جداً مساحة أبنيتها تعادل 17 مليون قدم مربعاً (نحو 7 .1 مليون متر مربع) .

 

ووصل هذا التحقيق الصحفي إلى أن "سلطة رابعة قد نشأت وهي مُغيّبة تماماً عن أعين الشعب الرقابية بستار من السرية الفائقة . . لقد أصبحت كبيرة جداً، وحدود مسؤولياتها ضبابية" .

 

لا أود أن أدعي أن الولايات المتحدة تكذب في خطابها السياسي والثقافي والاقتصادي لكنني اترك ذلك لآخرين . وجاء في تقرير ل Associated Press بتاريخ 24 يناير سنة 2008 أن مؤسستي The Center for public integrity and the Fund for Independence in Journalism وجدتا أن الرئيس بوش وكبار مساعديه كذبوا 925 مرة بعد أحداث 11 سبتمبر لتسويق خطر العراق على الأمن القومي الأمريكي . ولقد خلص التقرير إلى أن تلك الأكاذيب "كانت جزءاً من حملة متناسقة مسمرت الرأي العام الأمريكي، وبذلك، قادت الأمة إلى الحرب تحت أسباب كاذبة قطعاً" .

 

بعد سايكس - بيكو جاء عهد الاستعمار وعصر شبه الاستعمار، وعصر ما بعد الاستعمار، أو ما يسميه البعض أحياناً بعصر الاستقلال . سمّه ما شئت وبالطريقة التي تدخل السرور إلى قلبك، عملاً بحرية الرأي والرأي الآخر . منذ ذلك الحين رأى البعض كم كان حكيماً سعد زغلول عندما قال لزوجته: "غطيني يا صفية، ما فيش فايدة" نام هؤلاء وما زالوا حتى يوم القيامة . هؤلاء قناعتهم هي أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان . فهل هذا "الأفضل مما كان" وهو هذا الذي نحن فيه قابل للاستمرار والحياة؟ المشكلة أن الأنظمة العربية لحقبة ما بعد الاستعمار طبقت انظمته (أقصد أنظمة الاستعمار) السياسية والثقافية والاقتصادية وهي الأنظمة المأزومة أصلاً في عقر دارها . فهناك دول تنهار اقتصاداتها وأخرى على وشك الإفلاس، وحركات تململ شعبي حتى داخل الولايات المتحدة مثل حركة Occupy Wall Street .

 

وكما وصل النظام العربي إلى طريق مسدود فكذلك أيضاً النظام الرأسمالي الغربي، المفكرون في الغرب هم أيضاً لا يرون إمكانية معالجة هذا النظام من داخل منظومته . هذا ما كتبه Willis Harman إن النظام الحالي شأنه شأن المريض الذي يذهب إلى الطبيب فيقول للطبيب إنه يقاسي عمله الذي يضنيه، لكنه يحب ما يتعاطاه من الكحول في المساء فهي تنسيه هموم النهار، وهو يدخن ثلاث علب سجاير في اليوم، وهو يطلب العلاج ولكن دونما أي تغيير في عمله أو شربه أو دخانه . ويضيف: "ويتعمق شعور الشعوب في العالم الحالي بأنهم أصبحوا بلا حول ولا قوة . . وهم في أكثر الأحيان يعزون تلك المشاعر لإخفاق سياسات قوى النفوذ أو إلى اليساريين المتعصبين، أو إلى الرأسماليين الجشعين، ولكن حقيقة الأمر هي أعمق من ذلك وتتطلب تغييراً عميقاً أساسياً في المفاهيم والافتراضات (للنظام نفسه)"، وتحدث عنه بطريقة مشابهة R oger Terry يعرف الأمريكيون أن هناك خطأ ما في أمريكا، ولكنهم لا يعرفون ما هو، ولا يعرفون لماذا ذاك الخطأ، والأهم من كل ذلك فهم لا يعرفون كيف يصلحون ذلك الخطأ . . وكل ما بإمكانهم هو الإشارة إلى أعراض المرض فقط . . وفي الحقيقة فإن بعضاً مما يسمى حلولاً يزيد الطين بلّة، ذلك أن تلك الحلول تحاول أن تغير نتائج النظام من دون تغيير النظام الذي أفرز تلك النتائج . قال البرت اينشتاين (لا يمكن حل مشكلات اليوم من نفس العقول التي صنعتها بالأمس، ليست المشكلة بالآخرين وحدهم، فنحن ما بين فئة قليلة تطابقت مصالحها مع من هم خارج أوطانها أو ممن شغفهم الغرب حباً، وهؤلاء قال عنهم ابن خلدون قبل بضع مئات من السنين إن "عبودية العقل هي أقسى أنواع العبوديات"، وبين فئة جمدت حضارتنا العظيمة في ثلاجة الزمن البعيد، من دون الأخذ بأدوات التحديث والعصر في حضارة حثت على الأخذ بالعلم حتى ولو في الصين .

 

هناك عالم اقتصادي وسياسي وحضاري جديد يتشكل في كافة ارجاء العالم . وعالمنا العربي والإسلامي هو احد مراكز الصراع الساخنة لتشكيل هذا التغيير .

 

قال صامويل هانتغتون في كتابه صراع الحضارات: "لم يربح الغرب العالم بسبب تفوق أفكاره أو قيمه أو ديانته، وإنما ربحه بسبب تفوّقه في استعماله للعنف المنظم؛ والغربيون غالباً ما ينسون هذه الحقيقة، أما غير الغربيين فلا ينسونها أبداً".

 

أود أن أنوه إلى أنني في هذا الكتاب قد قدمت بعض ما كتبه كبار الكتاب العالميين، خصوصاً ذوي الاطلاع الواسع من النواحي البحثية وبعض أولئك من الذين تبوأوا مراكز قيادية في الولايات المتحدة ومنهم من عمل في بعضٍ مراكز القرار الأمريكي مثل مجلس الأمن القومي وهنا دعني أبين نقطتين:

 

الأولى: إن الترجمة كانت تحافظ على المعنى دون حرفيتها

 

الثانية: إن الآراء الواردة في تلك المقالات هي لأصحابها . أما آرائي فهي تلك الموجودة في التمهيد والمقدمات لكافة الفصول أو ما جاء من اقتباسات عن كتاباتي وكتبي السابقة .

 

وأخيراً، نحن لسنا في صناعة المديح أوالإساءة لأحد فنحن نقوم بعصف فكري ولكننا نحترم كل من اجتهد حتى إن اخطأ فله حسنة وإن أصاب فله عشرة أمثالها .

 

أسباب الانتفاضات العربية: عالم عربي ميت

 

ظهرت هذه المقالة في جريدة "الوشنطن بوست" في 15 فبراير/شباط 2011 بعد أقل من أسبوع من تنحي حسني مبارك، كاتبا المقال هما: حسين آغا، وروبرت ماللّي Robert Malley والملاحظ أن الكاتبين يشتركان في كتابة مقالات عدة في مواقع مؤثرة في القرار الأمريكي، كما أن خلفية الكاتبين توضح امتلاكهما لمعلومات قريبة جداً من صناع القرار الأمريكي . فحسين آغا قريب من السلطة الوطنية الفلسطينية ويعمل مستشاراً لها، بينما يعيش بين لندن وبيروت . وهو عضو مشارك في كلية سانت انطوني، جامعة اكسفورد . أما روبرت ماللّي فولد لأبوين يهوديين مصريين . تخرج في جامعات Yale ، وجامعة اكسفورد، وكذلك كلية القانون في جامعة هارفرد حيث كان زميلاً في الدراسة مع باراك أوباما آنذاك . عمل في مجلس الأمن القومي . كما عمل مساعداً خاصاً للرئيس الأمريكي بيل كلينتون للشؤون العربية - "الإسرائيلية"، وكان مع الوفد الأمريكي المفاوض في كامب ديفيد في المفاوضات الأمريكية - الفلسطينية - "الإسرائيلية" . هذا التعريف بالكاتبين ضروري لإعطاء تحليلهما مصداقية على مقدار المعلومات التي يمتلكانها حيث إن تحليلهما للاسباب الموجبة للانتفاضات العربية المسماة بالربيع العربي هو في غاية الدقة والمنهجية العلمية، التي ظهرت في هذه المقالة (1) التي سنورد بعضاً منها:

 

لم يكن المحتجون في شوارع القاهرة الذين أسقطوا نظام حسني مبارك خلال (18) يوماً يطالبون بإنهاء ذلك الحكم الظالم والفاسد والمستبد فقط . لم يكونوا ضد الجوع والبطالة والحرمان الذي نتج عن حكامهم، فهم قاسوا من هذه المظالم من سنين لكن ما قاتلوا من أجله كان شيئاً أكبر . عالمهم العربي ميت وثورتهم تسعى لإحيائه . منذ خمسينات القرن العشرين كان العرب فخورين بنضالهم ضد الإمبريالية، فخورين بمواقف رؤسائهم بأن لهم رسالة ودولة مستقلة مقاومة لأي هيمنة اجنبية، في مصر كان جمال عبد الناصر يدير دولة اقتصادها منهار، ويستمر في الحكم حتى بعد هزيمة مُذلة من "إسرائيل" سنة 1967 لكن بقيت مصر قلب العالم العربي، كان العالم العربي يتابع عبدالناصر وهو يهاجم الغرب، ويعاند مستعمري مصر السابقين، ويؤمم قناة السويس ويعادي "إسرائيل"، في الوقت نفسه . انتزعت الجزائر استقلالها من الفرنسيين وأصبحت ملجأ للثوريين، وقادت العربية السعودية حظراً نفطياً هزّ عالم الاقتصاد، وياسر عرفات وقد أعطى للفلسطينين صوتاً ووضع قضيتهم على الخريطة من جديد . وفي كل أرجاء العالم العربي، فلقد تعرض إلى انتكاسات عسكرية وسياسية لكنه بقي يقاوم، والبعض في العالم لم يحبوا ما كانوا يسمعون . لم يكن هناك استسلام .

 

تعاني الدول العربية شيئاً أكبر وأقسى من الفقر أو الشمولية . لقد أصبحت أنظمة مزيفة في أعين شعوبها التي تنظر لها كأنها غريبة عنها، تنفذ سياساتٍ تأتيها من بعيد . ولا يستطيع أحد أن يفهم حقيقة مشاعر وأعمال المصريين، والتونسيين والأردنيين من دون الأخذ في الاعتبار أن شعور هؤلاء العميق، لم يسمح لهم بأن يكونوا أنفسهم وأنه قد تم سلب هويتهم، فذهبوا إلى الشارع ليس كحركة احتجاج، وإنما كحركة تقرير المصير .

 

إن حقن المساعدة الاقتصادية للانظمة المتهالكة لن يفيد . فالمظالم التي تشكو منها الجماهير العربية ليست بالأساس مادية، إنها تشكو من الاعتماد الكثير على الخارج . أما دعوة الولايات المتحدة للإصلاح فهي لا تجد آذاناً صاغية، فلا يحق لمن آزر الأنظمة الاستبدادية لعشرات السنين أن يتشدق بالإصلاح أو التغيير . أما محاولة الضغط على الحكام فقد تأتي بنتائج عكسية حيث إنها تسمح للنظام بأن يدّعي أن حركات الاحتجاج هي موجهة من الغرب وأن دعاة التغبير ما هم سوى ألعوبة بيد الغرب .

 

يعتقد بعض اصحاب القرار الغربيين في العواصم الغربية - بل إنهم أقنعوا أنفسهم - بأن اعادة عملية السلام "الإسرائيلية" - الفلسطينية ستساعد على تهدئة الرأي العام . إن ذلك هو أضغاث أحلام وعملية انكار، فهي تغفل حقيقة أن العرب سئموا من لعبة السلام هذه التي يرون فيها تحقيقاً لرغبة غربية لا تحقيقاً لأجندة وطنية . كما أنها تقع في خطأ هو أن السلام المأمول في الدول الغربية ولدى الحكام العرب هو سلام مغشوش مفروض وغير عادل لتصفية القضية الفلسطينية . وهكذا فإن سياسة فرضه لإنقاذ الوضع الراهن ستسارع في عملية سقوطه .

 

انتفاضات لا ثورات

 

وضع القائد الشيوعي فلاديمير لينينLENIN) ) ثلاثة شروط لإنجاح أي ثورة: أولها، حزب سياسي منظم ومتين، وقيادة قوية الشكيمة والعزيمة، وبرنامج واضح . ولو قبلنا بهذه النظرية فلم يتوفر لأي من الانتفاضة المصرية، ولا التونسية من قبلها تلك العناصر . لم يكن للانتفاضة اهداف واضحة حيث إن الأهداف كان يصوغها الشارع ساعة بساعة وبطريقة عفوية، كما لم يكن لها قيادة محددة باعتراف الجميع، ولم يكن يقودها تنظيم أو حزب مُحدد في بداياتها . هذه الهبّة الشعبية العارمة أطاحت رأس النظام ولكنها أبقت على النظام برموزه ومؤسساته، فبقيت المباركية دونما مبارك الذي تم استبداله بمجلس عسكري تم تعيين كافة اعضائه من مبارك . بقيت هياكل الأجهزة الأمنية كما كانت، اللهم عدا إفراغها من أي مستندات قد تدين رموزها . سلطة القضاء بكاملها من النائب العام إلى كافة المراكز القيادية فيه بقيت كما كانت عليه . التعاون الأمني والاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة و"إسرائيل" بقي كما كان عليه . أصبح الحاكم بأمره الجديد، رئيس المجلس العسكري محمد حسين طنطاوي يتمتع ليس بسلطات كونه قائداً عاماً للجيش ورئيساً للدولة فقط، بل بسلطات مجلس الشعب أيضاً، وبقى ذلك الحكم العسكري قرابة السنة والنصف ترّص فيها (الفلول) صفوفها إلى انتخابات كان المطلوب والمأمول منها شرعنة عودة الفلول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، وقد كادت . (ونشير هنا إلى الفصل الخامس الذي يبين كيف تمكنت ماكينة المال والاعلام الأمريكية من رفع نسبة قبول الرأي العام بالرئيس الروسي يلتسين من 4 في المئة قبل توليهم حملته الانتخابية إلى إنجاحه بنسبة 35 في المئة وخلال 3 شهور) . ولكن مَن غير البسطاء أو البلهاء كان يتصور خلاف ذلك، فنظرة واحدة إلى سيرة الحاكم بأمره الجديد تكفي لأولي الالباب . ولد محمد حسين طنطاوي سليمان، ذوالاصول النوبية في 31/10/1935 وتخرج كضابط سنة 1956 وشارك في حروب مصر كلها . اختاره حسني مبارك رئيساً للحرس الجمهوري، وهو منصب يتم تعيين من هو شديد الولاء فيه قبل أن يكون شديد الكفاءة . بعدما اعترض قائد القوات المصرية المُرسل إلى السعودية للمشاركة في الحرب على العراق على تحويل مهمته من دفاعية في درع الصحراء إلى هجومية هي عاصفة الصحراء، اصطحب حسني مبارك طنطاوي إلى السعودية حيث عزل القائد (المتمرد) وأقام مقامه طنطاوي تحت امرة الجيش الأمريكي بقيادة الجنرال نورمان شوارتسكوف . بعدها عاد لمصر، وعُين مباشرة كوزير للدفاع بدءاً من شهر مايو سنة 1991 وحتى سنة ونصف من بعد رحيل مبارك، أي أنه بقي 21 سنة بالتمام والكمال، أتمّ خلالها شهر العسل بين الجيوش الأمريكية والجيش المصري وذلك عبر مشاركته في المناورات العسكرية مثل "النجم الساطع" والتي كانت تحضرها "إسرائيل" بصفة مراقب . وهكذا أصبح صاحب هذا السجل الناصع الثائر الأول على رأس "الثورة المصرية" .

 

في فصل لاحق وفي دراسة أمريكية تمت سنة ،2006 يتبين أنها وصلت إلى القناعة والنتيجة أن أياً ممن قد يصل إلى الحكم من الإسلاميين أو خلافهم، سوف يصعب عليه (إن لم يستحل عليه) أن يحدث تغييراً في الوضع الراهن اقتصادياً كون الاقتصاد المصري قد تمّت هيكلته وربطه بمشاريع ومؤسسات العولمة الأمريكية والغربية الرأسمالية، وحيث أصبح الجيش والأمن القومي المصري مرتبطاً بمساعدات أمريكية مشروطة بمعاهدة الصلح المصرية - "الإسرائيلية" بل وتصل الدراسة إلى حد القول إن القوات المسلحة المصرية لن تسمح بمس العلاقة الاستراتيجية الأمريكية "الإسرائيلية" - المصرية!

 

عمل العسكر في المجلس العسكري الأعلى ثمانية عشر شهراً كل ما بوسعهم للإبقاء على ثوابت نظام مبارك مستعملين أجهزة مبارك القضائية والأمنية والإعلامية . حتى إن رئيسي الوزراء في عهد المجلس العسكري كانا من عهد حسني مبارك . جيء أولاً بعصام شرف بعد مسرحية ذهابه إلى ميدان التحرير يوماً أو بعض يوم وروج المجلس العسكري وإعلامه بأن عصام شرف هو اختيار الثوار علماً أنه ولآخر ساعة كان عضواً في لجنة السياسات التي يرأسها جمال مبارك! وحين كُشف أمره جيء بالجنزوري وهو أيضاً رئيس وزراء سابق من عهد حسني مبارك .

 

وحيث إن التنظيم الوحيد الذي كان على الأرض قادراً على التنظيم هو جماعة الإخوان المسلمين، فقد تعاون العسكر معهم تكتيكياً لا استراتيجياً حيث إن سياساتهم المعلنة لا تتماشى مع عقيدة القوات المسلحة العلمانية . لكنه (أي المجلس العسكري الأعلى) أراد أن يكسب وقتاً يلتقط فيه فلول النظام القديم أنفاسهم مستخدمين اعلام مبارك وفلوله والذي بدأ يكشف عن هويته خصوصاً، أيام الانتخابات الرئاسية والتي كادت أن تأتي بأحمد شفيق ممثلاً للمباركية على رأس النظام من جديد، فكانت نتيجة الانتخابات هي بفارق بسيط جداً (49 إلى 51 في المئة) فتم حل البرلمان ذي الأغلبية الإسلامية بعد أيام من ذلك، ثم (شرّع المجلس) ذلك الاعلان الدستوري المكمل الذي سلب رئيس الجمهورية عملياً كافة سلطاته، ثم التأهب لحل اللجنة ذات الاغلبية الإسلامية لكتابة الدستور إلى أن قام الرئيس مرسي بحركته الاستباقية بإقالة طنطاوي وأغلب أعضاء مجلسه العسكري .

 

ما الذي يستطيع أن يفعله أي رئيس يقف على رأس نظام معادٍ في جوهره لأي إصلاح، ذي اقتصاد منهار وفاسد ورثه بما فيه من تعفنات، وجماهير جائعة تظن أن السماء ستمطر خبزاً وذهباً بكبسة زر، وإعلام فاجر كان يخشى حتى أن يكتب عن صحة الرئيس مبارك لأنه إذا كتب فسيذهب إلى غياهب السجون . وإذا بنفس هؤلاء الذين سجنوا قد استأسدوا حتى بتجريح الرئيس المنتخب الجديد في أوركسترا إعلامية منسقة من غرف سوداء الله أعلم من يديرها . ولو أردت أن أبدي رأياً لجماعة الإخوان المسلمين لسألتهم أن يقوموا بتحليل لتاريخهم من حيث تكرار استعمالهم واستخدامهم من قبل الأنظمة ثمّ تخلي هذه الأنظمة عنهم، لا بل والتنكيل بهم أحياناً، وقد حدث مثل ذلك ثلاث مرات عبر تاريخهم في السنوات الثمانين الماضية: ساعدوا جمال عبد الناصر وجماعته من الضباط في ثورة 1952 تم نكل بهم أيّما تنكيل . ساعدوا أنور السادات في التخلص من نظام عبد الناصر وتغيير المنهج الاقتصادي إلى الانفتاح على الرأسمالية بأعلى وأوسخ مراتبها ثم تمّ التخلي عنهم، وبقوا معه ومع خليفته مبارك بين مدّ وجزر، كجماعة غير قانونية يتم استعمالها متى كان للنظام فائدة بذلك، ويتم التخلي عنها متى وجد النظام في ذلك مصلحةَ له .

 

ساعدوا النظام العسكري أخيراً بل وتحالفوا معه، إلى أن تمكّن العسكر، فكادوا أن ينقلبوا عليهم .

 

في الحالات الثلاث كان تنظيم الإخوان المسلمين ليس فاعلاً بل مفعولاً به . فهل تستحق هذه المقاربة شيئاً من التحليل؟!

 

دعني الآن أترجم مقال حسين آغا، وروبرت ماللّي والذي يصل كاتباه إلى أن ما حدث في مصر لتاريخه لم يكن ثورة

 

هذه ليست ثورة (1)

 

يهبط الظلام على العالم العربي . القمامة والموت والدمار بساحات القتال للوصول لحياة أفضل . الأجانب يتصارعون للهيمنة وتصفية الحسابات . أما المظاهرات السلمية التي بدأت هذه المرحلة بها فقد أصبحت من ذكريات الماضي البعيد . والانتخابات مناسبات احتفالية مفرغه من أي فكر سياسي، والبرنامج الثابت الوحيد هو ديني، والصراع على النفوذ قد انطلق على عنانه دونما قواعد واضحة، أو قيم، أو هدف، وهذا لن يتوقف بتغيير النظام أو بقائه، والتاريخ هنا لا يمشي إلى الامام ولكنه ينحرف إلى الأطراف . هناك أحداث داخل أحداث: الصراعات ضد أنظمة استبدادية، وصراع مذهبي للسنة والشيعة، وصراع تضارب القوى في المنطقة، وكأنها حرب باردة جديدة . تقسم الأمم، وتصحو الأقليات علّها تنطلق من عقال الدولة المقيدة لها، والصورة ضبابية . هذه هي صورة الواقع وجزيئاته وصورة ذلك غير واضحة وليس معلوماً إلى اين ستكون نهاياته . أما تلك التغيرات التي يظن بأنها مهمة، فتسقط ضمن هذه الرحلة الطويلة إلى المجهول أما الفاعلون الجدد والذين تم تحفيزهم حديثاً فلقد قفزوا إلى الواجهة: "الشارع" الذي لم يتم تعريفه، فسريعاً ما يلتئم وسريعاً ما ينفض، والإخوان المسلمون الذين اعتبرهم الغرب بالأمس القريب كمتطرفين خطرين يتم اعتبارهم اليوم كعقلاء عمليين، والسلفيون التقليديون الذين كانوا يتوجسون من كل أشكال السياسة تجدهم الآن متحمسين للمشاركة في الانتخابات . كما توجد جماعات سلفية مجهولة ومليشيات ولاءاتها غامضة لايُعرف من المستفيد منها، فضلاً عن وجود عصابات من المجرمين، وقطاع الطرق والخاطفين . أما التحالفات فحّدث ولا حرج، فليس لها من منطق يحكمها كما أنها تتغير باستمرار . فالأنظمة الثيوقراطية تدعم العلمانين، وتنادي بالديمقراطية، والولايات المتحدة تشكل شراكات مع إسلاميين، وإسلاميين يتطلعون إلى أنظمة طالما قاوموها، وبعض الدول الشمولية تشجع العلمانين ضد الإخوان المسلمين والسلفيين ضد العلمانيين . والولايات المتحدة تتآلف مع العراق والتي تتآلف بدورها مع إيران التي تساند النظام السوري والذي تعمل الولايات المتحدة على إسقاطه . وتتحالف الولايات المتحدة مع دول تموّل حماس وتموّل السلفيين الذين يمولون الجهاديين والذين يحاولون قتل الأمريكيين أينما كانوا، وفي وقت قياسي تحوّلت تركيا من دولة دون أي مشاكل مع جيرانها إلى دولة تنازع كل الجيران، لقد أغضبت إيران، والعراق، و"إسرائيل" وعملياً فإنها في حالة حرب مع سوريا، أصبح أكراد العراق حلفاء لها بينما تقاتل أكراد تركيا مع أن سياستها في العراق وسوريا تحرضّ الأكراد الأتراك على الانفصال . أما إيران فلقد عارضت الأنظمة العربية، بينما طورت علاقاتها مع الإسلاميين باعتبار أن نظرتهم الإسلامية ستكون عاملاً مشتركاً . ولكن أول ما إن يصل هؤلاء الإسلاميون إلى السلطة يقومون بالابتعاد عن إيران ليطمئنوا الغرب وحلفاءهم العرب . تعاونت الولايات المتحدة مع بعض دول الخليج في إزاحة معمر القذافي بالأمس وتتعاون معهم لإزاحة بشار الاسد اليوم . وتدّعي أنه يجب عليها أن تكون في الجانب الصحيح من التاريخ بينما تساند أنظمة تريد لدولٍ غيرها ما لا تريده لنفسها . وما الذي يجمع أدعياء الديمقراطية المنتفضين على دولهم مع دول لا تطبق ما يدعون أنهم "يجاهدون" من أجله غير المال؟ إن نظام التحالفات الجديد في المنطقة يرتكز على العديد من الافتراضات الكاذبة والمخادعة . فهذه التحالفات ليست صحية لصعوبة اعتبارها حقيقية إذ إنها في أفضل حالاتها تحالفات مغرضه ومصلحيه نفعيه لا تستند إلى قيم مبدئية . شيء ما بها غير طبيعي لذلك فلن يكون لها نهاية سعيدة . يجتمع الناس في ميدان التحرير وتصوب الفضائيات كاميراتها صوب المحتجين . ولكن ماذا عن الملايين الذين فضلوا البقاء في منازلهم؟ هل كانوا جميعاً فرحين برحيل مبارك؟ وماذا عن شعورهم الآن نحو الفوضى الحالية، والانهيار الاقتصادي، وعدم الوضوح السياسي؟ في الانتخابات الاخيرة 50 في المئة من المصريين لم يشاركوا في الانتخابات كما أن نصف هؤلاء صوّت لأحمد شفيق ممثل النظام القديم . وهل هؤلاء ال50 في المئة هم على الجانب الصحيح من التاريخ؟

 

أكثر السوريين لا يحاربون من اجل النظام ولا من أجل المعارضة فهم المتلقون لمصائب المواجهة . ولا أحد يهتم برغباتهم، ويستمع إلى صوتهم أو يهتم بمصائرهم وتصبح الكاميرا أداة للقلاقل والتعبئة والدعاية والاثارة وميزان القوى يميل لمصلحة النظام ولكن يتم التعويض عن ذلك بماكينة الدعاية التي تنحاز نحو المعارضة . أما دول الربيع العربي فلا يوجد في أي بلد منها قائد بارز يستطيع أن يخطّ لها طريقاً جديداً وإن وجدت قيادة فهي للجان من الخارج (كسوريا مثلاً)، فلا أحد أعطاها التفويض، حيث يتم تفويضها من الغرب الذي يعطيها المسؤولية ويبرزها ويدفع بها إلى الظهور . فبعض الدول تقدم المال والمؤسسات الدولية تقدم الدعم المعنوي أما القادة للحركات المعارضة فلا يبرزون بناء على ثقة تأتيهم من الداخل بل إنما يأتون بدعم أجنبي . وهكذا عليهم أن يكونوا حذرين وأن يعدلوا مواقفهم لتكون مقبولة من هؤلاء الأجانب، أما القادة السابقون فلم تكن تحكمهم مثل هذه الاعتبارات . سواء أكانوا على خطأ أم على صواب، كانوا يعاندون في قراراتهم بل ويتفاخرون بالاعتراض عليها . تماماً كما كان الحكام المعزولون يحاولون إرضاء "الغرب"، فكذلك الإسلاميون . وتماماً كما كان الحكام المعزولون يستعملون الإسلاميين كفزاعة لإخافة الغرب لابقائه بجانبهم، فالإسلاميون يستعلمون اليوم السلفيين كفزاعة لاخافة الغرب في ما لو فشلوا، في حين يحار السلفيون بين المحافظة على تاريخهم أو التلذذ بطعم القوة والنفوذ الذي وصلوا اليه . أصبحت "الجهاد" مقام "حماس" سابقاً تطلق الصواريخ من غزة لإحراج حماس حكام غزّة، وأصبحت حماس هي فتح الجديدة، تدّعي أنها حركة مقاومة في الوقت الذي تضايق أولئك الذين يقاومون، وأصبحت فتح كواحدٍ من الانظمة العربية التي طالما احتقرت .

 

السياسة في مصرمنقسمة بين الإخوان المسلمين المنتصرين، وسلفيين أكثر تشدداً، وغير إسلاميين خائفين، وبقايا النظام القديم . وتونس مرّت بمرحلة انتقالية آمنة، ونجح حزب النهضة الذي يقدم حلولاً ووجهاً معتدلاً للإسلام . ولكن محاولته للهيمنة على السلطة تثير القلق وسوف تظل بين الإسلامين والعلمانيين في ازدياد .

 

في اليمن تنحى الرئيس عن الحكم لكنه مازال يبقى مؤثراً في المسرح السياسي . هناك حرب تغلي في الشمال، والجهاديون يعرضون عضلاتهم، والثوار الشباب الذين أرادوا تغييراً شاملاً يرون فقط فئة مختلفة من الحكام أنفسهم يحتلون المسرح، ومازالت الطائرات الأمريكية من دون طيار تقتل مجاهدي القاعدة وأولئك الذين يصادف وجودهم على مقربة منهم .

 

أما القوى التي هُزمت لكنها لم تتحطم فسوف تعيد ترتيب صفوفها وتقاوم . أما ميزان القوى فهو غير واضح المعالم . والنصرلا يُقوّي المنتصرين أحياناً . المنتصرون يقبعون في سلطة الدولة، ولكنها ذات فائدة محدودة حيث ينظر المواطنون العرب إلى دولهم نظرة ريبة وشك، ولتكون في مقعد قيادة الدولة لا يعني ممارستك القيادة والقوة .

 

فريق 14 آذار استجمع قوته بينما كان في المعارضة ولكنه خسرها بعد استلامه السلطة ،2005 وحزب الله لم يكن يوماً في موقع دفاع كما هو الآن بعد كونه القوة وراء الحكومة اليوم .

 

سيطر الإخوان المسلمون في مصر، وتونس وتقدموا في المغرب ويسيطرون على غزّة، وهم أقوياء في سوريا والأردن . حتى عبارة سيطر المسلمون كانت قبل قليل من الزمان لايمكن نطقها . تعايش الإخوان لمّدة ثمانين عاماً من العمل "تحت الارض" وقُتلوا وعُذبوا وأجبروا على المقاومة ينتظرون يومهم هذا . لقد كان النزاع بينهم وبين "القوميين" مريراً وطويلاً ودامياً . فهل اقتربت نهاية العذاب والصراع؟ لقد غيّبت الحرب العالمية الاولى حكماً إسلامياً عثمانياً لأربعه قرون ورأت صعود الامبرياليه الغربية . وكان القرن العشرون قرن القومية العربية . وللكثيرين، فإنها حركة غريبة وفكر مستورد من الغرب، وانحراف كان يجب تصحيحه . ولقد أجبر الامر الواقع الإسلاميين على التعايش مع الدول التي نشأت بعد الدولة الإسلامية العثمانية ولكن سعيهم لتغيير هذا الواقع بقي ثابتاً .

 

أما عالم الإخوان المسلمون فهو "مسلمون بلا حدود" .

 

ملاحظة: تذكر أن هذا ليس رأيي ولا رأي الإخوان المسلمين بالضرورة، إنما هو تحليل الكاتبين وقراءتهما لما يريانه سياسة إسلامية مقبلة .

 

لقد تمت إطاحة مبارك لأنه في رأي الآخرين كان شديد الخضوع للغرب أما الإسلاميون الذين جاءوا بعده فهم سيقدمون ما لم يستطع تقديمه . كان مبارك طاغية ليس لديه برامج، أما الإخوان المسلمون فلهم برامج أخلاقية واجتماعية وثقافية، فهم يعتقدون أن بإمكانهم الالتزام بمعتقداتهم حتى لو أنهم ليسوا معادين للغرب . بعكس أصدقاء الغرب المخلوعين، فنحن سمعنا الإسلاميين يطالبون بالتدخل في ليبيا بالأمس، وسوريا اليوم . فهم يرون إمكانية استدعاء الكفار الأجانب لخلع الكفار المحليين الذين اضطهدوهم لعقود . فعدم السماح بالتدخل الأجنبي كان سمة عقود الاستقلال الأولى لكنه ليس الحال هذه الأيام .

 

ما سعت الولايات المتحدة للحصول عليه بالتدخل والإكراه، يمكنها أن تحصل عليه الآن بالتراضي، وهو أنظمة عربية لا تهدد مصالحها . فلهذا لا عجب إذاً من أن الكثيرين في المنطقة يعتقدون أن الولايات المتحدة كانت شريكاً في حركات الربيع العربي في كل مكان . تجابه "إسرائيل" صعود الإسلام، بقلق وهم يرون اعداءهم السابقين يتحكمون بالحكم، لكن الإسلامين لهم أجندتهم الخاصة وأهدافهم الأخرى هم يريدون تثبيت مشروعهم الإسلامي مما يعني تقوية حكمهم ساعين إلى عدم معاداة الغرب، ساعين إلى عدم الصدام مع "إسرائيل" .

 

أما حماس، أحد فروع الإخوان المسلمين فإنها لم تُغيّر أهدافها بأن الدولة اليهودية غير شرعية وأن أرض فلسطين التاريخية هي إسلامية، وأنه إذا لم يكن ميزان القوى اليوم لمصلحتها فلتعمل على تغيير هذا الميزان لمصلحتها . وخلاف ذلك فهو تكتيكات لا غير . لقد نجح الإسلاميون وهم في المعارضة لأنه كان بإمكانهم لوم الآخرين . لكنهم سيقاومون وهم في الحكم لأن آخرين يمكن أن يلقوا باللوم عليهم . وإذا خففوا من إسلامية أجندتهم في الداخل فقد يفقدون أناسهم، وإذا اتبعوا أجندتهم الإسلامية فسوف يعادون غير الإسلاميين والغرب على السواء، إذا اجّلوا الصراع مع "إسرائيل" فإن خطابهم سيكون مناقضاً مع خطابهم السياسي لكنه يهادن حلفاءهم الجدد في الغرب، وإذا فسرّوا أن اعتدالهم إنما هو تكتيكي فسوف يكشفون عن أنفسهم، وإذا التزموا الهدوء فسوف تضرب الفوضى كوادرهم .

 

انتهت الترجمة

 

وأنا أتساءل هنا هل أن سياسة مسك العصا من الوسط ستضع الإسلاميين في ورطة حين استلامهم الحكم في أي اتجاه يسيرون فيه كما جاء في الفقرة الأخيرة في الدراسة المترجمة أعلاه؟ فإذا كان النظام العربي ميتاً كما يدعي المحللون الغربيون فهل يعالج من هو في غيبوبة الموت بحبة أسبرين أو بصدمة كهربائية؟ يبدو أن الدراسات الغربية كانت تخطط لإفشال المشروع الإسلامي كما خططت لإفشال المشروع القومي من قبله . فهل سينجحون؟

 

قبل إرسال مسودة هذا الكتاب إلى الطبع برز جناحان في حزب النهضة بتونس . كذلك اشتكى الإخوان المسلمون في حماس بأن السلطات المصرية تقوم بضخ ماء الصرف الصحي في أنفاق غزة حيث صرح احد قادتهم أن "الانفاق الحدودية مع مصر كانت خياراً وحيداً أمام الفلسطينيين لمواجهة الحصار، وإن اغراقها المتكرر بالمياه في ظل الحصار هو بحكم عودة الحصار بقرار رسمي مسبق" .

 

فهل تحاصر جماعة في مصر أختها في غزة؟

 

(ليس كل ما يتمناه الغرب يدركه) كما علمنّا التاريخ القريب في العراق وأفغانستان . وهناك نظام عالمي جديد يتشكل هذه الأيام . نظرية الاستراتيجي الجيوسياسي البريطاني  Mckinder بأن من يستحوذ على النفوذ في (يوارسيا) سيكون له اليد الطولى في الهيمنة على العالم . وعالمنا العربي هو قلب يوراسيا وهو قلب ساحة المعارك لنظام عالمي عربي وإسلامي جديد، وستكون الغلبة في النهاية (لقانون العواقب غير المحسوبة) من الغرب .

 

"أمريكا إسرائيل الكبرى" و"إسرائيل أمريكا الصغرى"

 

تقول الإنسايكلوبيديا ويكي بيديا: Wikipedia  يرى المؤرخون أصل المصطلح الثقافة اليهومسيحية Judeo-Christian Culture  يعود إلى الثورة البروتوستانتية . . وفي السياق الأمريكي يرى المؤرخون بأن استعمال هذا المصطلح هو للدلالة على تأثير العهد القديم اليهودي (التوراة) والعهد الجديد (الإنجيل) على الفكر البروتوستانتي ومفاهيمه بشكل خاص . . لقد رأى المهاجرون الأوائل لأمريكا أنفسهم الوارثين للكتاب المقدس العبري وتعاليمه . . والتي أصبحت بدورها أساساً لمفاهيم النظام الأمريكي . . لتصبح تلك المفاهيم العبرية أساساً للثورة الأمريكية، وميثاق الاستقلال، ودستور الولايات المتحدة . كلام واضح لا لبس فيه! الحضارة الغربية والأمريكية جذورها وروحها يهودية تلمودية!

 

أفرزت الثورة البروتستانتية في بداية القرن السادس عشر شراكة يهودية مسيحية بروتستانتية كانت الغلبة فيها لليهودية والتي ما لبثت أن حللت الربا وأطلقت النظام الرأسمالي الذي استعار اسمه من بارونات رأس المال اليهود فصار النظام بأكمله خادماً لهم . وما لبث الغرب أن انطلق بغزواته الاستعمارية عبر شركاته "عبر القطرية" كشركة الهند الشرقية سنة 1600 يبني ثرواته باستنزاف ونهب ثروات الآخرين واستعبادهم كعبيد يباعون ويشترون، أو كمستعمَرين لا حول لهم ولا قوة، ولقد صاحبت جيوش المستعمرين الغربيين غزوات ثقافية خصوصاً في القرن التاسع عشر، ثم جاء الاستعمار المباشر خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين، والاستعمار غير المباشر ما بعد منتصف القرن العشرين في عهد ما بعد الاستعمار أو ما يسمى أحياناً بعصر الاستقلال .

 

خلّف الاستعمار وراءه نخباً من أهالي مستعمراته تم إرضاعُهم بحليبه وثقافته ومن ثم تم برمجتهم، وتهيئتهم لتحكم هذه النخب نيابة عن الغرب، يساعدهم في ذلك محافل ومؤسسات سرية أو شبه سرية رعاها وبناها المستعمر إبان حكمه المباشر، وهكذا انفصلت هذه النخبة عن شعوبها وتوسّعت الهوة بينها وبين شعوبها يوماً بعد يوم، وأزمة بعد أزمة حتى عرّتها الأيام حتى من ورقة توت تستر بها عورتها .

 

قبل أكثّر من خمسين سنة من دعوة تيودور هيرتزل لحركته الصهيونية كتب الجد الأبعد للرئيسين جورج بوش الأب والابن كتاباً نقتبس منه هنا كما جاء في كتاب (القوة والعقيدة والخيال) للمؤرخ الأمريكي "الإسرائيلي" مايكل أورن Michael Oren والذي اختاره نتنياهو سفيراً ل"إسرائيل" في الولايات المتحدة . جاء في الكتاب:

 

"وجدت الأصولية المؤمنة بضرورة إعادة اليهود لفلسطين أكبر تعبير لها في كتاب نشر سنة 1844 بعنوان: "وادي الرؤى: اعادة "إسرائيل" للوجود" كتبه بروفيسور اللغة العبرية في جامعة نيويورك جورج بوش الجد الأبعد لرئيسين أمريكيين يحملان الاسم نفسه .

 

طالب بوش في كتابه بالارتقاء باليهودية ورفع اليهود إلى مرتبة نبيلة أمام الأمم في العالم وإقامة دولة لهم في فلسطين، فذلك سوف يأتي بالخير على الإنسانية، حيث يصبح اليهود عندئذٍ همزة الوصل بين الإنسانية والله .

 

بعد إطلاعي على كتابات (البروفيسور جورج بوش الأقدم، وجورج بوش الأب والابن تعمّقت في دراسة التاريخ الأمريكي منذ هبوط أول المهاجرين الأوروبيين إلى يومنا هذا، واستنتجت أن "أمريكا "إسرائيل" الكبرى، و"إسرائيل" أمريكا الصغرى) وجعلت هذا عنواناً لكتابيّ بالإنجليزية وكذلك بالعربية .

 

كانت الجامعة العبرية في القدس من أوائل المشاريع الصهيونية في فلسطين في بدايات الانتداب البريطاني . كان العالم اليهودي "ألبرت انشتاين" من أبرز حضور حفل الافتتاح برعاية المندوب السامي البريطاني هيربرت صامويل اليهودي الذي كتب نص وعد بلفور وكان من أولى دراسات الجامعة ومساراتها دراسة أسباب سقوط دولة الصليبيين بعد مئتي عام من تأسيسها لتلافي تلك الأسباب بعد انشاء الدولة اليهودية .

 

تقرير لتفتيت العالم العربي أعدته الحركة الصهيونية سنة 1982

 

كنت قد اطلعت على تقرير لتفتيت العالم العربي الصادر من المنظمة الصهيونية العالمية ووزارة الخارجية "الإسرائيلية" مترجمةً إلى الإنجليزية من قِبَل "الإسرائيلي"، "إسرائيل" شحاك Israel Shahak وذلك على موقع خريجي الجامعات الأمريكية من أصول عربية . . وأنوه هنا أن ترجمة إسرائيل شحاك للتقرير كان معه خارطة "إسرائيل" من الفرات إلى النيل كما جاءت بمذكرات مؤسس الصهيونية اليهودية تيودورهرتزل - الجزء الثاني صفحة 711 - وهي نفس الحدود التي ذكرها الحاخام فيشمان Fischmann عضو الوكالة اليهودية للجنة التحقيق الخاصة بالأمم المتحدة في 9 يوليو 1947 .

 

ولكنني لاحقاً وجدت الترجمة باللغة العربية والتي أوردها هنا والتي اقتبسها كما وردت، حيث قام بهذه الترجمة مشكوراً السيد محمد سيف الدولة .

 

تقرير لتفتيت العالم العربي أعدته الحركة الصهيونية سنة 1982 (1)

 

1- في عام 1982 نشرت مجلة "كيفونيم" التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية، وثيقة بعنوان "استراتيجية "إسرائيلية" للثمانينات" . ولقد نشرت الوثيقة باللغة العبرية، وتم ترجمتها إلى اللغة العربية، وقدمها الدكتور/ عصمت سيف الدولة كأحد مستندات دفاعه عن المتهمين في قضية تنظيم ثورة مصر عام 1988 .

 

2- ولقد رأيت أهمية إعادة نشر هذه الوثيقة الآن للأسباب الآتية:

 

أن الخطط الحالية الساعية لفصل جنوب السودان وتقسيمه، ضمن الأفكار الواردة في الوثيقة .

 

أن الاعتراف الرسمي بالأمازيغية كلغة ثانية، بجوار اللغة العربية في الجزائر هي خطوة لا تبتعد عن التصور الصهيوني عن المغرب العربي أن مخطط تقسيم لبنان إلى عدد من الدويلات الطائفية، الذي حاولت الدولة الصهيونية تنفيذه في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وفشلت في تحقيقه هو تطبيق عملي لما جاء في هذه الوثيقة بخصوص لبنان .

 

ان الحديث الدائر الآن في الأوساط الصهيونية حول تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، والتخوفات العربية من استغلال أجواء احتلال العراق لتنفيذ ذلك، هو من أساسيات الأفكار المطروحة في الوثيقة . وأخيراً وليس آخراً، أن الأخطار التي تتعرض لها مصر، واردة بالتفصيل في الوثيقة الصهيونية .

 

3- والحديث عن وثيقة من هذا النوع، ليس حديثاً ثانوياً يمكن تجاهله، فهم ينصون فيها صراحة على رغبتهم في مزيد من التفتيت لأمتنا العربية والإسلامية . كما أن تاريخنا الحديث هو نتاج لمشاريع استعمارية مماثلة، بدأت أفكاراً، وتحولت إلى اتفاقات ووثائق، تلزمنا وتحكمنا حتى الآن:

 

فمعاهدة لندن 1840 سلخت مصر منذئذ وحتى تاريخه عن الأمة العربية . فسمحت لمحمد علي وأسرته بحكم مصر فقط، وحرمت عليه أي نشاط خارجها . ولذلك نسمي هذه الاتفاقية "اتفاقية كامب ديفيد الأولى" .

 

واتفاقية سايكس - بيكو 1916 قسمت الوطن العربي، هذا التقسيم البائس الذي نعيش فيه حتى الآن، والذي جعلنا مجموعة من العاجزين، المحبوسين داخل حدود مصطنعة، محرومين من الدفاع عن باقي شعبنا وباقي ارضنا في فلسطين أو في العراق أو في السودان .

 

وهو القرار الذي رفضته الدول العربية في البداية . وظلت ترفضه عشرين عاماً لتعود وتعترف به بموجب القرار رقم 242 الصادر من الأمم المتحدة في ،1967 الذي ينص على حق "إسرائيل" في الوجود، و حقها أن تعيش في أمان على أرض فلسطين المغتصبة .

 

ووعد بلفور 1917 كان المقدمة التي ادت إلى اغتصاب فلسطين في ما بعد . ثم تلاه وقام على أساسه صك الانتداب البريطاني على فلسطين في 29 سبتمبر ،1922 الذي اعترف في مادته الرابعة بالوكالة اليهودية من أجل انشاء وطن قومي لليهود . فأعطوا بذلك الضوء الأخضر للهجرة اليهودية إلى فلسطين . فلما قوي شأن العصابات الصهيونية في فلسطين، أصدرت لهم الأمم المتحدة، قراراً بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر ،1947 وهو القرار الذي أعطى مشروعية للاغتصاب الصهيوني . وانشأت بموجبه دولة "إسرائيل" .

 

وعلى أساس هذا القرار أبرمت معاهدة السلام المصرية "الإسرائيلية" الموقعة في 26/3/،1979 والتي بموجبها خرجت مصر من الصراع العربي ضد المشروع الصهيوني، واعترفت ب"إسرائيل" وتنازلت لها عن 78% من فلسطين لتلحق بها منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 ثم الأردن 1994 وأخيراً جامعة الدول العربية عام ،2002 كل ذلك وغيره الكثير، بدأ أفكاراً، وأهدافاً استعمارية، وتحول فيما بعد إلى حقائق . وبالتالي ليس من المستبعد أبداً أن تتحول الأفكار، التي وردت في الوثيقة الصهيونية المذكورة، إلى أمر واقع ولو بعد حين

 

4- والوثيقة الصهيونية منشورة في الصفحات التالية بنص كلماتها وفقراتها، مع فرق واحد، هو انني أخذت ما جاء متفرقاً بالوثيقة بخصوص كل قطر، وقد قمت بتجميعه في فقرة واحدة، وحاولت ترقيمه وتبنيده، لتسهل متابعته .

 

5- وأخيراً فإن الهدف الذي رجوته من نشر هذه الوثيقة، هو أن ننظر إلى العدوان علينا في مساره التاريخي . وأن نراه على حقيقته كمخطط، موحد، منتظم، متسلسل، ممتد . وأن نحرر أنفسنا من منطق التناول المجزأ لتاريخنا، الذي يقسمه إلى حوادث منفصلة عن بعضها البعض . آملاً في النهاية ألا تقتصر حياتنا على مجموعة من الانفعالات وردود الفعل اللحظية المؤقتة، التي تعلو وقت الشدة، وتخبو في الأوقات الأخرى . فتاريخنا كله ومنذ زمن بعيد، ولزمن طويل آت، هو وقت شدة .

 

نص الوثيقة الصهيونية

 

أولاً: نظرة عامة على العالم العربي والإسلامي:

 

ان العالم العربي الإسلامي هو بمثابة برج من الورق أقامه الأجانب (فرنسا وبريطانيا في العشرينات)، دون أن توضع في الحسبان رغبات وتطلعات سكان هذا العالم .

 

لقد قسم هذا العالم إلى 19 دولة كلها تتكون من خليط من الأقليات والطوائف المختلفة، والتي تعادي كل منها الأخرى وعليه فإن كل دولة عربية إسلامية معرضة اليوم لخطر التفتت العرقي والاجتماعي في الداخل إلى حد الحرب الداخلية كما هو الحال في بعض هذه الدول . وإذا ما أضفنا إلى ذلك الوضع الاقتصادي يتبين لنا كيف أن المنطقة كلها، في الواقع، بناء مصطنع كبرج الورق .

 

لا يمكنه التصدي للمشاكل الخطيرة التي تواجهه، في هذا العالم الضخم والمشتت، توجد جماعات قليلة من واسعي الثراء وجماهير غفيرة من الفقراء . ان معظم العرب متوسط دخلهم السنوي حوالي 300 دولار في العام .

 

ان هذه الصورة قائمه وعاصفة جداً للوضع من حول "إسرائيل"، وتشكل بالنسبة ل"إسرائيل" تحديات ومشاكل وأخطاراً، ولكنها تشكل أيضاً فرصاً عظيمة .

 

ثانياً - مصر

 

في مصر توجد أغلبية سنية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين الذين يشكلون الأغلبية في مصر العليا، حوالي 8 ملايين نسمة . وكان السادات قد أعرب في خطابه في مايو من عام 1980 عن خشيته من أن تطالب هذه الأقلية بقيام دولتها الخاصة أي دولة لبنانية مسيحية جديدة في مصر .

 

والملايين من السكان على حافة الجوع نصفهم يعانون من البطالة وقلة السكن في ظروف تعد أعلى نسبة تكدس سكاني في العالم . وبخلاف الجيش فليس هناك أي قطاع يتمتع بقدر من الانضباط والفعالية والدولة في حالة دائمة من الإفلاس من دون المساعدات الخارجية الأمريكية التي خصصت لها بعد اتفاقية السلام .

 

ان استعادة شبه جزيرة سيناء بما تحتويه من موارد طبيعية ومن احتياطي يجب اذن أن يكون هدفاً أساسياً من الدرجة الأولى اليوم . . أن المصريين لن يلتزموا باتفاقية السلام بعد اعادة سيناء، وسوف يفعلون كل مافي وسعهم لكي يعودوا إلى أحضان العالم العربي، وسوف نضطر إلى العمل لاعادة الأوضاع في سيناء إلى ما كانت عليه .

 

ان مصر لا تشكل خطراً عسكرياً استراتيجياً على المدى البعيد بسبب تفككها الداخلي، ومن الممكن إعادتها إلى الوضع الذي كانت عليه بعد حرب يونيو 1967 بطرق عديدة . إن اسطورة مصر القوية والزعيمة للدول العربية قد تبددت في عام 1956 وتأكد زوالها في عام ،1967 إن مصر بطبيعتها وبتركيبتها السياسية الداخلية، إن مصر المفككة والمقسمة إلى عناصر سيادية متعددة، على عكس ماهي عليه الآن، سوف لا تشكل أي تهديد ل"إسرائيل" بل ستكون ضماناً للأمن والسلام لفترة طويلة، وهذا الأمر هو اليوم في متناول أيدينا .

 

إن دولاً مثل ليبيا والسودان والدول الأبعد منها سوف لا يكون لها وجود بصورتها الحالية، بل ستنضم إلى حالة التفكك والسقوط التي ستتعرض لها مصر . فاذا ما تفككت مصر فستتفكك سائر الدول الأخرى . إن فكرة انشاء دولة قبطية مسيحية في مصر العليا إلى جانب عدد من الدويلات الضعيفة التي تتمتع بالسيادة الأقليمية في مصر بعكس السلطة والسيادة المركزية الموجودة اليوم هي وسيلتنا لإحداث هذا التطور التاريخى .

 

ثالثاً - ليبيا:

 

إن القذافي يشن حروبه المدمرة ضد العرب أنفسهم انطلاقاً من دولة تكاد تخلو من وجود سكان يمكن أن يشكلوا قومية قوية وذات نفوذ . ومن هنا جاءت محاولاته لعقد اتفاقيات باتحاد مع دولة حقيقية كما حدث في الماضي مع مصر ويحدث اليوم مع سوريا .

 

رابعاً - السودان:

 

وأما السودان أكثر دول العالم العربي الإسلامي تفككاً فانها تتكون من أربع مجموعات سكانية كل منها غريبة عن الأخرى، فمن أقلية عربية مسلمة سنية تسيطر على أغلبية غير عربية إفريقية إلى وثنيين إلى مسيحيين .

 

خامساً - لبنان:

 

أما لبنان فانها مقسمة ومنهارة اقتصاديا لافتقارها إلى سلطة موحدة، بل خمس سلطات سيادية (مسيحية في الشمال تؤيدها سوريا وتتزعمها اسرة فرنجية، وفي الحالية هي بمثابة جثة هامدة فعلا بعد سقوطها، وذلك بسبب التفرقة بين المسلمين والمسيحيين والتي سوف تزداد حدتها في المستقبل) .

 

الشرق منطقة احتلال سوري مباشر، وفي الوسط دولة مسيحية تسيطر عليها الكتائب، وإلى الجنوب منها وحتى نهر الليطاني دولة لمنظمة التحرير الفلسطينية هي في معظمها من الفلسطينيين، ثم دولة الرائد سعد حداد من المسيحيين وحوالي نصف مليون من الشيعة .ان تفتت لبنان إلى خمس مقاطعات إقليمية يجب أن يكون سابقة لكل العالم العربي بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية .

 

سادساً - المغرب العربي:

 

ففي الجزائر هناك حرب أهلية في المناطق الجبلية بين الشعبين اللذين يكونان سكان هذا البلد

 

كما أن المغرب والجزائر بينهما حرب بسبب المستعمرة الصحراوية الإسبانية إضافة إلى الصراعات الداخلية التي تعاني منها كل منهما كما أن التطرف الإسلامي يهدد وحدة تونس .

 

سابعاً إيران وتركيا وباكستان وافغانستان:

 

فايران تتكون من النصف المتحدث بالفارسية والنصف الآخر تركي من الناحية العرقية واللغوية، وفي طباعه أيضاً .

 

وأما تركيا فمنقسمة إلى النصف من المسلمين السنّة أتراك الأصل واللغة، والنصف الثاني أقليات كبيرة من 12 مليون شيعي علوي و6 ملايين كردي سني .

 

وفي افغانستان خمسة ملايين من الشيعة يشكلون حوالي ثلث عدد السكان، وفي باكستان السنية حوالي 15 مليون شيعي يهددون كيان هذه الدولة .

 

الأردن وفلسطين:

 

والأردن هي في الواقع فلسطينية حيث الأقلية البدوية من الأردنيين هي المسيطرة، ولكن غالبية الجيش من الفلسطينيين وكذلك الجهاز الإداري . وفي الواقع تعد عمان فلسطينية مثلها مثل نابلس وهي هدف استراتيجي وعاجل للمدى القريب وليس للمدى البعيد وذلك أنها لن تشكل أي تهديد حقيقي على المدى البعيد بعد تفتيتها ومن غير الممكن أن يبقى الأردن على حالته وتركيبته الحالية لفترة طويلة . أن سياسة "إسرائيل" - أما بالحرب أو بالسلم - يجب أن تؤدي إلى تصفية الحكم الأردني الحالي ونقل السلطة إلى الأغلبية الفلسطينية . ان تغيير السلطة شرقي نهر الأردن سوف يؤدي أيضاً إلى حل مشكلة المناطق المكتظة بالسكان العرب غربي النهر سواء بالحرب أم في ظروف السلم . ان زيادة معدلات الهجرة من المناطق وتجميد النمو الاقتصادي والسكاني فيها هو الضمان لإحداث التغيير المنتظر على ضفتي نهر الأردن ويجب أيضاً عدم الموافقة على مشروع الحكم الذاتي أو أي تسوية أو تقسيم للمناطق . . وانه لم يعد بالإمكان العيش في هذه البلاد في الظروف الراهنة من دون الفصل بين الشعبين بحيث يكون العرب في الأردن واليهود في المناطق الواقعة غربي النهر .

 

ان التعايش والسلام الحقيقي سوف يسودان البلاد فقط إذا فهم العرب بأنه لن يكون لهم وجود ولا أمن دون التسليم بوجود سيطرة يهودية على المناطق الممتدة من النهر إلى البحر، وأن أمنهم وكيانهم سوف يكونان في الأردن فقط .

 

ان التمييز في دولة "إسرائيل" بين حدود عام 1967 وحدود عام 1948 لم يكن له أي مغزى .

 

وفي أي وضع سياسي أو عسكري مستقبلي يجب أن يكون واضحاً بأن حل مشكلة عرب "إسرائيل" سوف يأتي فقط عن طريق قبولهم لوجود "إسرائيل" ضمن حدود آمنة حتى نهر الأردن وما بعده تبعاً لمتطلبات وجودنا في العصر الصعب (العصر الذري الذي ينتظرنا قريباً) فليس بالإمكان الاستمرار في وجود ثلاثة أرباع السكان اليهود على الشريط الساحلي الضيق والمكتظ بالسكان في العصر الذري أن إعادة توزيع السكان هو إذن هدف استراتيجي داخلي من الدرجة الأولى

 

وبدون ذلك فسوف لا نستطيع البقاء في المستقبل في إطار أي نوع من الحدود، أن مناطق يهودا والسامرة والجليل هي الضمان الوحيد لبقاء الدولة .

 

وإذا لم نشكل أغلبية في المنطقة الجبلية فإننا لن نستطيع السيطرة على البلاد . وسوف نصبح مثل الصليبيين الذين فقدوا هذه البلاد التي لم تكن ملكاً لهم في الأصل وعاشوا غرباء فيها منذ البداية . إن اعادة التوازن السكاني الاستراتيجي والاقتصادي لسكان البلاد هو الهدف الرئيسي والأسمى ل"إسرائيل" اليوم .

 

ان السيطرة على المصادر المائية من بئر سبع وحتى الجليل الأعلى، هي بمثابة الهدف القومي المنبثق من الهدف الاستراتيجي الأساسي، والذي يقضي باستيطان المناطق الجبلية التي تخلو من اليهود اليوم .

 

انتهت الترجمة وأذكر بأن ناقل الكفر ليس بكافر .

 

دراسات أمريكية عن الديمقراطية ومعضلتها مع الإسلاميين

 

نقدم في هذا الفصل دراسة عن الإسلاميين والديمقراطية كنموذج للدراسات التي تقوم بها مؤسسات الولايات المتحدة الحكومية والخاصة لدراسة الأحوال السائدة في مناطق نفوذها بأدق التفاصيل خصوصاً ما يتعلق باهتماماتها الامنية والاقتصادية، وذلك لتضع خططاً لكل الاحتمالات كي لا تفاجأ بأي سيناريو ويكون لكل احتمال خطة جاهزة في الأدراج . وعلى سبيل المثال فإن خطط حرب الخليج الأولى ضد العراق سنة 1990 وسنة 1991 كانت قد نشرت في مجلة فورشن سنة 1979 .

 

إن مقولة اهتمام الولايات المتحدة بتحفيز الديمقراطية في العالم العربي هي استهزاء بالعقول وأقرب ما تكون إلى النكتة السياسية . وتأكيداً لذلك أورد ما جاء مؤخراً في مقال في صحيفة الغارديان بعنوان "لماذا تبدو عملية تحفيز الديمقراطية فارغة المضمون" (1)

 

"المعهد الدولي الجمهوري IRI قفز إلى واجهات الأخبار مؤخراً حين قام المجلس العسكري المصري الحاكم بمنع بعض أعضائه من السفر وإبقائهم في مصر مع احتمال التحقيق معهم ومحاكمتهم . . . . إنIRI هو الذراع الدولي للحزب الجمهوري، وقد عمل IRI مع المجموعات التي كانت تحاول تغيير قوانين الانتخاب لتساهم في إضعاف حكومة حزب العمال برئاسة الرئيس لولا دي سيليفيا "وكذلك في فنزويلا وغيرها من الذي يعرف ما كان يفعله IRI داخل مصر؟ لكن ما نعرفه هو أن الولايات المتحدة ساندت نظاماً ديكتاتوريّاً تعسفيّاً لعقود إلى ان تم اسقاطه من الجماهير . . ." .

 

"إن، ال IRI وNDI هما المستفيدان من تبرعات ]التبرع الوطني للديمقراطية[ (National Endowment For Democracy) وهي منظمة تقوم بنشاطات الكثير منها يموّل من قبل وكالة المخابرات المركزية CIA حسب ما جاء في ال"وشنطن بوست" .

 

" . . . إن حكومة الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى في العالم تدير امبراطورية . وبطبيعة الإمبراطوريات، فإنها تسعى إلى النفوذ والسيطرة على الشعوب . . . وهذه الأهداف تتناقص مع تطلعات الشعوب المستهدفة المتطلعة إلى الديمقراطية وتقرير المصير، ولا يوجد مكان أكثر وضوحاً لهذا التناقض منه في الشرق الأوسط . ." .

 

إن مرحلة الانتقال في العالم العربي من القديم، إلى الجديد ملأى بالمجهول من حيث سرعته ونقطة نهايته . وعندما تبدأ مرحلة الانتقال فإنها ستجلب مزيداً من الثقة بالنفس وعندئذ على الحكومات أن تغير مواقفها . فالشعب يريدهم أكثر شبهاً بتركيا وأقل شبهاً بماضي حكوماتهم .

 

والآن نقدم هنا نموذجاً للعديد من الدرسات التي تقوم بها مؤسسات الأبحاث للإدارات الأمريكية سواء من داخل المؤسسات الحكومية أو المؤسسات الخاصة Think Tanks . قام بهذه الدراسة Jeremy M, Sharp وهو باحث متخصص في دراسات الشرق الأوسط في مركز أبحاث الكونغرس (2) دائرة السياسة الخارجية والدفاع، والتجارة - دراسة بعنوان: "سياسة الولايات المتحدة لتحفيز الديمقراطية في الشرق الأوسط والمعضلة مع الإسلاميين" وفقرات الدراسة تحلل الفكر الإسلامي عن الهوية السياسية، وتحفظات الولايات المتحدة نحو الجماعات الإسلامية،وترجيح الخيارات الليبرالية، والتعاطي مع التيارات الإسلامية المعتدلة النابذة للعنف والإرهاب، وكذلك اتباع طريق الأمر الواقع كما تبحث الدراسة عن سياسة تحفيز الولايات المتحدة للديمقراطية وبرامج وهيئات هذا التحفيز المختلفة، وتركز الدراسة في مرحلتها الأولى على تحليل عميق للحركات الإسلامية في المغرب ومصر والأردن فاتحة الباب لإضافة حالات الجماعات والاحزاب السياسية في البلدان العربية والإسلامية الاخرى لاحقاَ لتضاف إلى هذه الورقة . ونود هنا أن نذكر ثانية بأن هذه الدراسة قد نشرت سنة 2006 .

 

الفكر الإسلامي والهوية

 

يقول الباحث إن جوهر البحث في عملية الانتقال الديمقراطي في الشرق الأوسط هو تحديد الهوية الوطنية، وفي بلدان عدة فإن أسئلة عن دور الإسلام في الحياة السياسية وحقوق الاقليات الدينية والعرقية، ودور المرأة ما زال مبهماً . وحيث إن الحركات القومية العلمانية قد فقدت مصداقيتها نتيجة تلاحق الهزائم العربية على يد "إسرائيل" في 1967 أو 1973 . فلقد قفزت إلى الصدارة الحركات الإسلامية والعرقية لتملأ الفراغ الناتج عن أزمة الهوية في العالم العربي . واليوم تتصارع خيارات عدة على فراغ الهوية هذا . والإسلاميون المعتدلون يحاولون ملء هذا الفراغ بإصلاحات سياسية واجتماعية وخلق مجتمع يحكم حسب الشريعة الإسلامية . وهناك بعض الإسلاميين الأكثر تطرفاً ممن يستعملون الانتخابات كوسيلة للوصول إلى الحكم لتطبيق نظام إسلامي أكثر تشدداَ . أما الإصلاحيون غير المنتمين للفكر الإسلامي فيحاولون استمداد الدعم من الفئات العلمانية والأقليات الدينية والعرقية الذين يعتبرون أنفسهم مواطنين من الدرجة الثانية . وهذه الفئات نفسها كثيراً ما يتم اتهامها بأنها تتعاون مع الأجانب .

 

أما النخبة الحاكمة في الجيش والقطاع الخاص، فلقد كونت هويتها الخاصة لتقوية حكمهم بجمهوريات الحزب الواحد، أغلب الباحثين يعتبرون الهوية الإسلامية هي الأكثر شيوعاً في العالم العربي .

 

ويقتبس الباحث هنا، من باحثٍ آخر اسمهQuintan W iktorowiez والذي يقول: "إن الحراك الإسلامي جذوره عميقة في الإيحاءات، واللغة، والتاريخ الثقافي للمجتمع الإسلامي وبالنتيجة تجاوبت معه الجماهير التي فقدت ثقتها بالأمر الواقع وتقاسي من الإقصاء السياسي، والحرمان الاقتصادي، والشعور باللاحول واللا قوة من قبل قوى خارجية وقوى العولمة الخفية" وهكذا استسلمت هذه الجماهير إلى أن "الإسلام هو الحل" لمشاكلها الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن الحداثة وثقافة الاستهلاك الغربية . وهكذا عمل الإسلاميون، المعتدلون منهم والمتشددون على بناء مؤسساتهم الخاصة في مجتمعاتهم ابتداء من التنظيمات السياسية إلى العيادات الطبية والمدارس . وخلال تفرعاتهم وخدماتهم الاجتماعية استطاع الإسلاميون إيجاد "دولة بديلة داخل دولة: لها جذورها مع الجماهير، خصوصاً في الطبقات الدنيا والمتوسطة" .

 

وهناك أمثلة عديدة، حيث سمحت بعض الأنظمة بالنشاط لأحزاب إسلامية بطريقة قانونية أو شبه قانونية ما دامت تلك الأنظمة تعتقدأن هذه الأحزاب تساعدها في التنفيس عن الضغط السياسي للجماهير من قبل تلك الأنظمة الاستبدادية، ولذلك فتجد علاقة تلك الأنظمة والأحزاب الإسلامية بين مدّ وجزر .

 

تخوف الحكومة الأمريكية من الجماعات الإسلامية

 

قبل سنة 1979 وقيام الثورة الإسلامية في إيران كانت الإدارات الأمريكية تنظر إلى المشكلة الإسلامية نظرة أكاديمية وليس كإحدى النقاط المؤثرة على الأمن القومي الأمريكي . إلا أن نظرة حكومة الولايات المتحدة للحركات الإسلامية بدأت تتغير بعد الثورة تلك نحو الاعتقاد بأن وصول الإسلاميين إلى السلطة سيجعلهم يتصادمون مع متطلبات السياسة الأمريكية، ومنها الوصول إلى الإمدادات والمصادر النفطية، وكذلك التعاون العسكري مع بعض دول المنطقة، وأمن "إسرائيل" بالإضافة إلى مصالح اخرى . كانت ضغوط الولايات المتحدة في تلك الأثناء على الأنظمة حينئذ هي تحديث اقتصاد دول المنطقة وبرامج التجارة الحرّة، وأما الاهتمام بحقوق الإنسان والديمقراطية فكانت أمراً ثانوياً . ولقد حرصت الأنظمة العربية على القيام باعمال تجميلية لاحقيقية بالنسبة للديمقراطية بهدف درء الانتقادات الدولية لا أكثر، ولقد قامت الكثير من تلك الأنظمة بالتلاعب بالانتخابات والإبقاء على نظام برلماني ضعيف، والسماح بقدر يسير من المعارضة العلنية للانظمة .

 

خيارات الولايات المتحدة نحو الحركات الإسلامية

 

رفضت إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش مقولة الأنظمة الشمولية العربية بأنها هي السد المنيع ضد التيار الإسلامي، بل وربما بأنه اعتقد أن هذه الحركات هي نتاج مظالم تلك الأنظمة . قال بوش: "ستون سنة من قبول الولايات المتحدة بغياب الحرية في الشرق الأوسط لم ينتج عنه ضمان أمننا وسلامتنا . . . . ."

 

وهكذا التزمت الولايات المتحدة، ولو إنشائياً، بتغيير الأمر الواقع للأنظمة الشمولية . وبدأت دراسات داخل مؤسسة السياسات الخارجية للولايات المتحدة لبحث أفضل الخيارات للتعاطي مع الحركات الإسلامية، خصوصاً تلك التي نبذت العنف وشاركت في المسارات السياسية في بلدانها . كان هناك ثلاثة خيارات محّصتها الدراسات تلك .

 

الخيار الأول: محاربة الإسلاميين وتحفيز الليبراليين

 

يعتقد بعض الباحثين أن جميع الإسلاميين بلا استثناء سيلجأون إلى الوسائل السلمية والعنيفة للوصول إلى السلطة . ويترأس هذا التفكير "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" (المعروف بصهيونيته) ويدّعي هذا الفريق أن جميع الإسلاميين هم راديكاليون متطرفون بطبيعتهم اللاديمقراطية والمعادية للغرب كما يعتقد آخرون أن الإسلاميين سيرجعون بالديمقراطية إلى الوراء بتقييدهم لحريات الأقليات والمرأة، وأنهم سيمثلون خطراً على مصالح الولايات المتحدة بالمنطقة .

 

وإذا كانت الحكومة الأمريكية راغبة في ترسيخ الديمقراطية في المنطقة فعليها تقوية حكم القانون، وفصل السلطات، والمجتمع المدني ودعم الحركات العلمانية . كما يسود عدد من الباحثين، وكذلك الأنظمة العربية الاعتقاد بأن على الولايات المتحدة التوقف عن ممارسة الضغط للحرية السياسية والسماح لقوى السوق والعولمة أن تطور ولو ببطء طبقة متوسطة متعلمة والتي تقوم بدورها بأعمال التغيير من الداخل لا بضغوطات من الخارج .

 

الخيار الثاني: التعاطي مع الحركات الإسلامية الوسطية النابذة للعنف

 

يرى بعض الباحثين ضرورة أن تخفض الولايات المتحدة من مخاوفها من الحركات الإسلامية النابذة للعنف وعدم ممانعة مشاركتهم أو دمجهم في الحياة السياسية . فالعديد من خبراء الشرق الأوسط يرون أنّ اندماج هذه الحركات الإسلامية ستجبرهم الواقعية السياسية على اعتدال مواقفهم السياسية وبالتالي تحسين علاقاتهم بالحكومات الغربية . ويشير البعض إلى العلاقات الحسنة بين الولايات المتحدة وحكومة تركيا المحكومة من قبل حزب إسلامي محافظ . كما يعتقد بعض خبراء مكافحة الإرهاب منذ وقت طويل أن اندماج الحركات الإسلامية النابذة للعنف في الحياة السياسية سوف يعطيهم منطلقاً إيجابياَ سينتج عنه عدم الجاذبية للحركات الإسلامية المتطرفة .

 

الخيار الثالث: الخيار الواقعي

 

حيث إن موقف الولايات المتحدة الحالي به شيء من الضبابية ولربما عن قصد، فيرى كثير من العاملين في وزارة الخارجية الأمريكية أن موقف الولايات المتحدة الحالي نحو الديمقراطية هو موقف عملي . ويشير هؤلاء إلى أن الموقف الأمريكي حيال بلدٍ ما من حيث موقفه من الديمقراطية قد يختلف عنه لبلدٍ آخر نظراً لظروف كل بلد على حدة، وكذلك موقع الإسلاميين في تلك البلدان . كما يرى بعض الخبراء بالإسلام السياسي أن هناك خطأً دارجاً هو اعتبار الحركات الإسلامية كافة ذات نسيج واحد في حين أنها تختلف الواحدة عن الأخرى حتى بمقدار ما يتم تطبيقه من الشريعة الإسلامية كما يرى بعض الخبراء أن ارتباط الولايات المتحدة العضوي مع بعض الأنظمة الشمولية يحتم عليها الانتقائية في معاملتها للجماعات الإسلامية، وأن هذه الانتقائية مفيدة لسياسات الولايات المتحدة، حيث تستطيع أن تنادي بالإصلاح في دولة ما دونما خدش علاقاتها الحساسة والمهمة مع بعض شركائها من ذوي الأنظمة الشمولية .

 

الجماعات الإسلامية في دول عربية مُنْتقاة

 

مصر:

 

ترتبط الولايات المتحدة مع مصر بعلاقة استراتيجية لتأمين مصالح أمنها القومي وسياستها في منطقة الشرق الأوسط بأكمله . وترتبط مصر بمعاهدة سلام مع "إسرائيل" سنة ،1979 كما أنها تتلقى أكبر المساعدات الأمريكية الخارجية بعد "إسرائيل" - وتربط الولايات المتحدة ومصر علاقات وثيقة وتعاون كبير في العلاقات ذات الصلة بالجيش وأمور الاستخبارات .

 

كما تم تنصيب دائرة المخابرات المصرية كوسيط يُعتمد عليه في العلاقات الفلسطينية "الإسرائيلية" . ويعتقد الخبراء أن دور مصر الفلسطيني هذا زاد أهمية منذ أن وصلت حماس إلى السلطة بعد انتخابات سنة 2006 حيث إن كلاً من الولايات المتحدة و"إسرائيل" ومصر شاركت في عدائها لحماس لكبح جماحها .

 

كانت دعوة الولايات المتحدة للإصلاح السياسي تلقى امتعاضاً من مصر مبارك، ذلك لأن ذلك سينتج عنه تقوية جماعة الإخوان المسلمين التي هي الأكبر تنظيماً وأشد معارضة من أي فصيل سياسي آخر وبكثير . وبالرغم من اعتماد الجماعة نبذ العنف كسياسة ثابتة منذ عقود، إلا أن خطابها - ولو الظاهر منه معادٍ لسياسة الولايات المتحدة وعلاقة مصر مبارك معها . كما أن العديد من الخبراء غير متأكدين من قيام الإخوان المسلمين بتغيير سياسات مبارك الوثيقة مع الولايات المتحدة حين وصولهم للسلطة . كما ان لمصر تاريخ حافل بالصدام مع الإسلاميين المتطرّفين، ما جعل الحكومة تأخذ موقفاً معادياً للإسلاميين بكل اتجاهاتهم . كذلك فإن في مصر جالية كبيرة من الأقباط الذين لهم نفوذ خصوصاً في القطاع الخاص وهؤلاء يخشَون أي إسلام سياسي خوفاً من اشتعال الفتنة الطائفية التي تستعر بين الحين والآخر .

 

جماعة الإخوان المسلمون

 

تتمّيز علاقة "الإخوان المسلمين" بالدولة المصرية كونها جماعة لا تحمل سمةً قانوينة لحزب أو جماعة والتي تتعامل معها الدولة بطريقة متناقضة ما بين الاضطهاد احيانا، والتسامح بل والمساندة احيانا اخرى، وبالرغم من اعتماد الجماعة سياسة عدم العنف في العقود الثلاثة الأخيرة، إلا أن تاريخها الراديكالي وايديولوجيتها الأصولية، وأعضاؤها الشباب وربما الاكثر تطرفاً قد جعل موضوع التفاعل مع الجماعة امراًخلافياً بين المراقبين الغربيين، ومما يزيد الإشكالية هو تصميم الحكومة المصرية على قمع اي تعامل أو تفاعل مع هذه الجماعة . إلا أن بعض خبراء الديمقراطية يرون أن على الدول الغربية وكذلك الحكومة المصرية التعامل معها كونها أكبر مؤسسة معارضة في مصر في حين يرى البعض الآخر ضرورة تحضير جماعات علمانية بديلة . وأخيراً يرى فصيل آخر من الخبراء بأن تفعيل الحركات الإسلامية ضمن المنظومة السياسية المصرية هو شأن مصري داخلي صرف، وأن التدخل الأجنبي سينجم عنه أشعال الوطنية المصرية مما يزيد من عناد الحكومة المصرية في اتباع أي منهج إصلاحي .

 

منذ تأسيس حركة الإخوان المسلمين سنة 1928 أصبحت هي في مقدمة الحركات السنية الإسلامية السياسية، وانتشرت في كل أرجاء العالم العربي . لكن الحركة بدأت تنحى للتطرف ما بين 1930-1950 للوصول إلى اهدافها السياسية والاقتصادية والقانونية . وفي نهاية أربعينات القرن الماضي، أصبحت الجماعة تمثل تهديداً حقيقياً للدولة المصرية . ولقد ساعدت الجماعة حركة الضباط الأحرار في الانقلاب على النظام الملكي سنة 1952 إلا أنها اختلفت مع تلك الحركة، وبعد محاولة الاغتيال لجمال عبد الناصر سنة 1954 تم التنكيل بالحركة واعتقال منتسبيها أو هجرتهم لخارج مصر مما أضعف الحركة بشكل جوهري .

 

مع أن خطاب الديمقراطية والحرية كان منذ زمن بعيد إلا أنه وحتى أحداث سبتمبر،2001 كان الجانب الاقتصادي قبل الإصلاح السياسي هو محور السياسة الأمريكية في مصر كما في بقية البلدان العربية الأخرى .

 

سنة 2005 بدأ برنامج (MERI مبادرة المشاركة في الشرق الأوسط) بتوزيع هبات مباشرة إلى هيئات غير حكومية في مصر، وذلك لتحفيز الناشطين العلمانيين وجماعات حقوق الإنسان، خصوصاً اثناء الانتخابات البرلمانية والرئاسية . ومع أن الولايات المتحدة لم تُرد المواجهة العلنية مع النظام المصري إلا أنها احتجت عندما اعتقلت السلطات المصرية وحاكمت أيمن نور الناشط السياسي المعارض الذي رشح نفسه لانتخابات الرئاسة سنة ،2005 وأعاقت الإعلان عن الموافقة على انضمام مصر لمعاهدة التجارة الحّرة، ومع أن البعض قد قلل من تأثير أيمن نور السياسي إلا أنه كان يمثل خلق تيار علماني يواجه حزب الدولة العلماني أيضاً . إلا أن بعض المحللين تساءلوا عن جدية وعمق التزام الولايات المتحدة للعملية الديمقراطية خصوصاً بعد ما جاءت مثل هذه العملية بحماس لرئاسة حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية سنة ،2006 عندها تشارك النظام المصري مع "إسرائيل" والولايات المتحدة لاحتواء حماس وعقيدتها الإسلامية المقاومة ومنع انتشارها إلى دول الجوار . وفي هذا الجو وفي ظل التعاون الأمني المصري على الحدود المصرية "الإسرائيلية" مع غزة بدأت الولايات المتحدة من تخفيف لهجتها وخطابها نحو الحرية والديمقراطية . فلذلك عندما جددت مصر نظام الطوارئ لسنتين أخريين سنة 2006 بعد 25 سنة من تطبيقه، لم تنطق الولايات المتحدة بكلمة واحدة على الأقل علانية . وهنا بدأت الحيرة تلازم أصحاب القرار فيما سموه بالمعضلة الإسلامية، هل تسعى الولايات المتحدة جاهدة لدفع الإصلاح السياسي في مصر مع احتمال أن ينتج عن ذلك رد فعل وطني أو تقوية نفوذ الجماعات الراديكالية؟ أم تتبع الولايات المتحدة سياسية اعتدال طويلة المدى وبرامج بناء مؤسسية ذات طابع مهادن للنظام الحالي؟ بقيت هذه المقاربة بين مّد وجزر، ففي سنة 2006 أيضاً اتهمت الحكومة المصرية . (IRI)) المعهد الدولي الجمهوري الممّول من الخارجية الأمريكية والعامل داخل مصر، بالتدخل في الشؤون الداخلية المصرية، وتم الطلب من المعهد أن يوقف اعماله في مصر مؤقتاً .

 

الأردن

 

الأردن هو شريك مهم مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب وقد يكون الأكثر تأثراً من وصول حركة حماس إلى الحكم في الضفة والقطاع عام ،2006 وحيث إن أكثر من نصف السكان في الأردن هم من أصول فلسطينية فمن المحتمل أن يكون لحماس بينهم آلاف المؤيدين، علماً أن الحكومة الأردنية قد عملت على تعزيز الهوية الأردنية لتقليل إغراءات الإسلاميين والوطنية الفلسطينية . أما الإسلاميون الأردنيون، فكثير منهم من أصول فلسطينية، ولذلك فهم يرغبون في علاقات مميزة مع حماس في الضفة الغربية وقطاع غزة . ولذلك الكثير من المراقبين يتابعون السياسة في الأردن خصوصاً أن انتخابات بلدية وأخرى برلمانية مقبلة سنة ،2007 وذلك ليروا حظوظ الإسلاميين المعتدلين فيها .

 

الإخوان المسلمون - جبهة العمل الإسلامي

 

لقد انخرطت جماعة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية الأردنية منذ فترة طويلة كونها سلمت بشرعية النظام الهاشمي في حين تفاوتت وتيرة العلاقات بين الجماعة والقصر خلال السنوات . ويرجع تواجد الإخوان في الأردن منذ سنوات الثلاثينات من القرن الماضي، حيث تم الاعتراف الضمني بها كحركة إحسان ثم كحركة شبه سياسية، وبحيث تقدمت بمرشحين للانتخابات . ولقد كانت العلاقة بين القصر وحركة الإخوان مفيدة للطرفين عبر السنين . ولقد وجد الملوك الأردنيون تلك العلاقة مفيدة من الناحية السياسية كحليف وليس كمعارض، حيث مثلت العلاقة دعماً للنظام مقابل موجات القومية العربية خلال خمسينات القرن الماضي، وكذلك ضد الوطنية العلمانية الفلسطينية في السبعينات .

 

 

ثالوث المال والإعلام يصنع القرار في الديمقراطية الميكانيكية

 

كتب جورج سوروس في كتابه أزمة الرأسمالية العالمية: "إن الرأسمالية والديمقراطية تتبعان مبادئ مختلفة ومتنافرة تماماً . إن أهداف هذين المبدأين مختلفة: ففي الرأسمالية الغاية هي الثروة، أما في الديمقراطية فالغاية هي السلطة السياسية . كما أن معايير هذين المبدأين مختلفة: ففي الرأسمالية يعتبر المال هو وحدة القياس، أما في الديمقراطية فهي صوت المواطن . إن مصالح هذين المبدأين مختلفة أيضاً: ففي الرأسمالية تعتبر المصالح الشخصية الخاصة هي الأهم، أما في الديمقراطية فلا شيء فوق صوت المصلحة العامة . وفي الولايات المتحدة، يتمثل هذا التوتر بين الرأسمالية والديمقراطية في الصراع الأزلي بين بارونات المال والشعب" .

 

كما قال الرئيس الأمريكي روذرفورد بي .هيز: "إن مقولة: هذه حكومة الشعب، ومن الشعب وللشعب، لم تعد قائمة . . إنها حكومة الشركات، ومن الشركات وللشركات . ." .

 

ونقتبس الكاتب الأمريكي الكبير وليام غرايدر من كتابه "من الذي سيقول للناس": "إن الديمقراطية الأمريكية تعاني خللاً أعمق بكثير مما يريد معظم الناس الاعتراف به . فخلف المظاهر الزائفة التي تبعث على الاطمئنان مثل مسابقات الانتخابات المنتظمة وغيرها، فقد تم إفراغ الحكومة الذاتية من مفهومها الجوهري وعلى أعلى المستويات في الحكومة انتقلت سلطة صنع القرار من الأكثرية إلى الأقلية، تماماً كما يشك في ذلك الأفراد والمواطنون العاديون . وبدلاً من الرغبة الشعبية، تستجيب الحكومة الآن لإملاءات الطبقة الصغيرة التي تستحوذ على السلطة التي تمثل مصالح المنشآت الاقتصادية الكبرى والثروة المتركزة في أيدي النخبة والصفوة من الناس ذوي التأثير البالغ . .

 

لقد تقلص الاختلاف والتباين المفيد والمعقد بين أفراد الأمة ليصبح سلعة بلهاء أطلق عليها "الرأي العام" الذي يمكن بسهولة التلاعب به أو إثارته بالشعارات أو التصورات التي تطلقها وسائل الإعلام والدعاية" .

 

لقد تم تجريد الديمقراطية الأمريكية حسب ما هي عليه الآن، من جوهرها، حيث أصبحت عبارة عن عملية ميكانيكية تم إفراغها من أي مضمون . ولم يبق منها سليماً سوى مظاهرها الميكانيكية مثل إجراء الانتخابات على صعيد البلدة او الولايات او الأمة .على أن هذه الانتخابات باتت محكومة بألعاب وألاعيب مبتكرة وحيل بارعة أفقدت الانتخابات مضامينها والنوايا المعقودة عليها . وسيطر المال وما يستطيع شراءه على العملية، فانحسرت وأصبحت في نهايتها صوتاً واحداً لكل دولار وليس صوتاً واحداً لكل مواطن . وأصبح على معظم المرشحين أن ينحازوا ويصبحوا جزءاً من الممسكين بزمام السلطة الحقيقية في البلاد حتى لو أنهم هم الأقلية . وعلى المرشحين أن يكونوا مهيئين للعمل طبقاً لأجندة معدة سلفاً ومفصلة لخدمة مصالح تلك الأقلية وهي طبقة الواحد في المئة، الذين يمتلكون الثروات والنفوذ وبغض النظر عما يمكن أن تكون عليه ماهية هذه المسائل . ومن ثم يجري تسويق هؤلاء المرشحين على أيدي أصحاب النفوذ والمال وأبواق دعاياتهم، وهذا التسويق لا يتم بتبني المرشحين لمسائل جوهرية بل لشعارات فارغة ولكنها سلسة وسهلة التسويق للجماهير . وحين يتبوأ هؤلاء المرشحون مناصبهم، يصبحون جزءاً من نظام مسيطر عليه تماماً يمارس كل أعضائه منتخبين كانوا أم مُعيّنين أدوارهم المرسومة لهم بكل دقة . ويُراقب أصحاب النفوذ والأموال إدارة هذا النظام للوصول إلى أهدافهم من خلال أسلوب فذّ كفء، وطريقة تنم عن الاحتراف . واذا ما تراءى لأحد من المشرعين أو ذوي المناصب العليا المنتخبة الرفيعة الخروج عن الخط المرسوم فالويل لهم . فالناس خطاؤون بطبيعتهم ولكن خطايا المسؤولين المنتخبين تبدو وكأنها جزءٌ من مؤهلاتهم الوظيفية . إن أولئك الذين جاءوا بالمسؤولين المنتخبين إلى مقاعد السلطة بواسطة النفوذ والمال يستطيعون دوماً، وبنفس تلك الوسائل، تحطيمهم بواسطة نفوذ المال والإعلام . إن الله يسامح المخطئين اذا تابوا ولكن أصحاب النفوذ والثروات لا يتسامحون ولا يسامحون . وربما ينسون أو يتناسون ما دام النسيان أو التناسي خادماً لأغراضهم .

 

لقد سيطرت متلازمة ما يسمى بالأجنبية (BBB Syndrome الغوغاء تعطل الدماغ) ونتيجة للحملة الإعلامية المضللة لشركات التبغ انهالت على السيناتور جون ماكين الذي كان رئيساً للجنة، 10 آلاف رسالة ضد قانون التبغ موجهة من ناخبيه، مع العلم بأنه قبل ستة أسابيع فقط حاز هذا القانون موافقة ثلثي الأمريكيين وموافقة 19 من أصل عشرين عضواً في اللجنة التجارية لمجلس الشيوخ .

 

وألقى السيناتور ماكين خطاباً ملتهباً عاطفياً في قاعة مجلس الشيوخ قبيل تصويته ضد القانون . وتساءل ما إذا كان الأعضاء "يعتقدون أنه يجب السماح لصناعة ما أن تكذب، وتنجو من العقاب بأكاذيبها" . وقال إن القانون لم يكن منصباً على الضرائب بل على مسألة "ما اذا كنا مستعدين للسماح بقتل 418 ألف أمريكي سنوياً الذين يموتون في سن مبكرة جراء إصابتهم بأمراض متعلقة بالتدخين، ولا نفعل إزاء ذلك شيئاً، بل نقف مكتوفي الإيدي" . وقال ماكين إن التصويت كان ليفاضل بين خدمتنا لمصالح الشعب أو لمصالح الخاصّة، وكانت نتيجة التصويت تجسيداً للمثل الذهبي أن الذي يحكم هو الذي يملك الذهب . وهذا بالضبط ما يمكن أن تفرزه نظرية دولار واحد وصوت واحد بدلاً عن شخص واحد وصوت واحد . إنها الديمقراطية الميكانيكية .

 

ولم يبد أي من زملاء ماكين أي عاطفة لقاء خطابه . وربما أجادت الكاتبة نانسي جيبس Nancy Gibbs في إصابة كبد الحقيقة عندما كتبت في مجلة "تايم" بتاريخ 29-6-1998 ص28 "إن مجلس الشيوخ الأمريكي يضم أعضاء يتمنون لو أن أعضاء آخرين (مثل ماكين) لم تطأ أقدامهم مجلس شيوخهم أبداً . فهؤلاء "كثيرو الغلبة" يحبون التغيير على الدوام حتى تغيير الأنظمة الراسخة مثل نظام التزاوج بين المال والقوة . ولذا فعندما وقف النائب الجمهوري المذعور والممزق جون ماكين في قاعة المجلس محدقاً في زملائه ومتهماً أياهم بتقديم ديونهم السياسية إلى شركات التبغ على التزامهم نحو (أولئك الذين لا يستطيعون الاعتناء بأنفسهم والمحافظة عليها في هذا المجتمع ومن ضمنهم أطفالنا)، فقد التزم القلة من الجمهوريين الحاضرين الصمت بينما وقف الديمقراطيون مصفقين . وبعد الخطاب اتجه ماكين إلى الباب مغادراً القاعة . ." .

 

وبعد انتهاء التصويت، قال السياسي كلينتون: "إن السياسة قد سدّت الباب أمام هذا الأمر، وأظن أن الشعب الأمريكي لديه سبب وجيه ليشعر بالحزن والأسى هذه الليلة" . ولكن ما الجديد في الأمر؟ ألم يقل الرئيس الأسبق ار . بي هيز منذ زمن طويل "إن مقولة هذه حكومة الشعب وبالشعب وللشعب لم تعد قائمة . . إنها حكومة الشركات وللشركات وبالشركات" . وهكذا لم يستطع الزمن أن يغير هذا التقليد الصلب الراسخ الذي يمثله اقتران المال بالنفوذ والقوة . وإن الفارق بين مشرعي القرن التاسع عشر ووقتنا الحاضر أن الأموال لشراء التشريعات كانت تدفع على أساس فوري "ادفع وارفع Cash and Carry"، أما الآن فإنها تدفع مقدماً من خلال وأثناء الحملات الانتخابية والتأييد المادي للمرشحين، ويتم الحصول على التشريعات فيما بعد . كذلك فإن ما علّق به كبير موظفي البيت من أن هذا الموقف هو أسوأ ما رأته واشنطن حتى الآن، ليس صحيحاً، إذ إن ذلك هو النسق الذي تسير عليه واشنطن على نحو معتاد .

 

إن الناخبين المساكين الذين يقضون كل أوقاتهم للحصول على قوت يومهم والخوف من غدهم يبهرون بشعارات وصور ما يتم تسويقه لهم فيسارعون إلى انتخاب الصورة بدلاً من انتخاب الشخص الحقيقي . ولما كانت "الديمقراطية الروسية" قد تلقت العون والمساعدة من الديمقراطية الأمريكية ووسائلها فإنها ستعطي مثلاً ناصعاً على كيفية التخطيط لعملية الانتحابات وإجرائها في الديمقراطية الميكانيكية . وما يجعل المثال أقرب إلى الوضوح أن الرأسمالية الروسية لم تكتسب خبرة الرأسمالية الأمريكية لتغليف نفسها، فلذا فهي تبدو بمظهرها الحقيقي . وقد كشفت مجلة تايم الأمريكية في عددها الصادر يوم 15-7-96 عن التفاصيل الآتية:

 

فيليكس براينين Felix Braynin، مهاجر يهودي روسي هاجر إلى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة عام 1979 . أما الآن فهو مستشار ثري في شؤون الإدارة وقرر الإقامة في موسكو ليستفيد من معرفته في روسيا وتقديم الاستشارات للأمريكيين ذوي الاهتمامات الاستثمارية بها . وقد لفت انتباهه إلى أن الاستطلاعات التي أجريت في روسيا بصدد الانتخابات التي لم يبق على إجرائها سوى بضعة أشهر، أظهرت أن 6% فقط من الناخبين الروس كانوا مستعدين لإعطاء أصواتهم ليلتسين كرئيس مقبل لروسيا .

 

وكانت لدى المواطنين الروس أسباب كثيرة تدعوهم إلى الإحساس بالتقزز من يلتسين ونظام حكمه، إذ إن وعوده بالإصلاحات الاقتصادية لم تعد بالخير إلا على طبقة الواحد في المئة من أرباب الثروات التي تم إيجادها . في غضون ذلك كان ملايين من المواطنين الروس يتضورون جوعاً بسبب البطالة، فيما لم يتلقّ عشرات الملايين الآخرين العاملين رواتبهم لمدة طويلة، بمن فيهم أفراد القوات المسلحة . كانت الحكومة مستبدة ينخر الفساد في أوصالها وكانت المافيا والجريمة في تزايد مستمر، فضلاً عن الحرب في الشيشان التي لم تتعدّ كونها كارثة على البلاد، فإلى أي مدى من السوء قد تبلغه الأمور في وضع مزر كهذا؟ ومما أثار كرب براينين ابن الثمانية والأربعين عاماً وأدخل الانقباض والحزن إلى نفسه هو عودة الشيوعيين إلى البرلمان الروسي (الدوما) . ولو تقدم مرشح شيوعي عندئذ، فلربما فاز في الانتخابات الرئاسية الروسية . وكمهاجر من روسيا، راقب براينين آليات ووسائل الانتخابات الأمريكية . ولا بد أن براينين قد تذكر كيف أصبح حاكم مغمور صغير السن لإحدى أفقر الولايات الأمريكية عندما تبنّتْهُ قوى المال والسماسرة في أمريكا وسوقته من خلال حملة وطنية شملت أنحاء الولايات المتحدة ومكنته من الفوز على رئيس يتربع على سدة الحكم وحاصل على أعلى تقدير في تاريخ الولايات المتحدة منذ عام واحد فقط . وظن براينين أن باستطاعة يلتسين الاستعانة ببعض صانعي التماثيل والصور الأمريكيين والمتخصصين في ادارة الحملات الانتخابية . وكان لهذا الروسي مصلحة كبرى، شأنه شأن مالكي النفوذ والسلطة الأمريكية في السعي لإعادة انتخاب يلتسين . ولذا فقد عمد إلى مناقشة الموضوع مع النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي، وتلقى الموافقة في مطلع شهر فبراير/شباط عام ،1997 وكان هناك شرطان جاءا مع الموافقة:

 

يجب أن يعمل الأمريكيون تحت ستار من السرية والكتمان، وبخلاف ذلك فإن الشيوعيين سيتهمون يلتسين بأنه "أداة في أيدي الأمريكيين" .

 

إذا وجد الأمريكيون أن إعادة انتخاب يلتسين غير ممكنة، فإن عليهم أن يقرروا ذلك قبل شهر واحد من إجراء الانتخابات حتى يمكن إلغاء الانتخابات أو إرجاؤها . ويا لله سبحانه من ديمقراطية!

 

وعلى الأثر استدعى براينين محامياً معروفاً بعلاقاته الوطيدة مع الجمهوريين في ولاية كاليفورنيا هو فريد لويل Fred Lowell في سان فرانسيسكو . وقد اتصل لويل بدوره بصديق له هو جو شوميت Joe Shumate، وهو خبير تحليل البيانات والتحليلات السياسية . وأخيراً تم اقتراح تشكيل قوة عمل برئاسة شوميت Joe Shumate وجورج جوردان George Gordan وهو استراتيجي سياسي قدير منذ زمن طويل . وقرر هؤلاء أن يضموا إليهم ريتشارد درسنر Richard Dresner وهو مستشار في شؤون الحملات في نيويورك وذو علاقات مع ديك موريس Dick Morris ذي العلاقات الحميمة مع إدارة كلينتون . وكان موريس ودرسنر قد عملا معاً أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات وساعدا على انتخاب كلينتون حاكماً لولاية أركنساس Arkansas . وأوردت مجلة "تايم" الأمريكية أنه في مناسبتين على الأقل قدم موريس يد المساعدة عن طريق موظفي إدارة كلينتون الرامية إلى إعادة انتخاب يلتسين . وقد أضيف اسم شابين إلى قوة العمل الأمريكية American Task Force (ATF): وهما وليم بارينين Braynin المدعو ألان Alan وهو ابن فيليكس، وستيفن مور Steven Moore المتخصص في العلاقات العامة في واشنطن . كما تم ضم ابنة يلتسين تيتيانا ديا شينكو Tatiana Dyachenko إلى قوة العمل الأمريكية . وأقامت قوة العمل في فندق الرئيس وعملت من الغرفة ،1120 بينما عملت تيتيانا من الغرفة ،1119 واعتمدت قوة العمل الخطة الآتية:

 

تدريب موظفي الحملات الانتخابية الروس على الأساليب الأمريكية في الاقتراع وتطوير الوسائل والاتصال بالناخبين وتنظيم الحملات .

 

يتم تشكيل "فرق الحقيقة" لمطاردة المرشح الشيوعي ومضايقته بالأسئلة إلى أن يفقد أعصابه . ويمكن أن تستعمل "الأكاذيب" من قبل فرق الحقيقة هذه!

 

يجب إجراء استطلاع للرأي العام لمعرفة نسبة التأييد ليلتسين . وأظهرت الدراسة أن الناس يعتقدون أنه حتى ستالين كانت لديه نقاط أكثر إيجابية من يلتسين . وأعرب 60% ممن شملهم الاستطلاع عن اعتقادهم أن يلتسين كان فاسداً، و65% يعتقدون أنه قد دمر الاقتصاد الروسي، وأنه مع وجود يلتسين لن يعرف التحسن طريقاً نحو أي شيء في روسيا . وببساطة، فقد وُجد أن يلتسين قد خلا من أي من النواحي الإيجابية التي يمكن أن تستعمل لمصلحته في الحملة الانتخابية . ولقد تم اتخاذ القرار على التركيز على المساوئ في العهد الشيوعي، ومن جملتها الطوابير الطويلة، شح المواد الغذائية وهلع الناس وخوفهم من حرب أهلية . وهكذا فقد قررت مجموعة التركيز focus group استعمال هذه الوسائل . وقد وجه خبراء الإعلام تلفزيون الدولة حول كيفية تركيز الكاميرا وتناول الأنباء الرئاسية كجزء متكامل من خطة الحملة .

 

قررت قوة العمل الأمريكية بعد تحليل الدراسة أن المرشح الشيوعي لن يحصل على أكثر من الصوت الشيوعي . وقررت اللجنة أن أخطر تهديد قد يتمثل في انبثاق قوة ثالثة وقرروا كذلك ضم "ليبيد Lebed" إلى صفهم مهما كلف الأمر . ولضمان عدم توحد المرشحين الآخرين فقد قررت قوة العمل نفخ هؤلاء وتضخيم صورهم على نحو لا يمكن أن يتفقوا أو يلتقوا معه أبداً .

 

ولكن من أكثر الأمور والنقاط المشوقة التي تدل على أن الديمقراطية الميكانيكية مفرغة من محتواها هو قرار قوة العمل الأمريكية بأن يلتسين يفتقر إلى أية مقومات وأسس جوهرية يمكن له أن يستعملها بنجاح في حملته . وقرروا ألاّ يدخل في أيه مناظرة مع خصمه الشيوعي، لأن يلتسين سيخسر مثل هذه المناظرة على وجه التأكيد . رأى أعضاء القوة أن قمة يعقدها كلينتون ويلتسين قبل بضعة شهور من الانتخابات ستحسن من صورة يلتسين، وخصوصاً إذا أظهر أنه سيستمر في النضال لمصلحة روسيا ضد الغرب . لقد كان موظفو الحملة الانتخابية الروس مأخوذين تماماً، وعلى الأخص باستعمال أجهزة الحاسوب والأجهزة الإلكترونية لقياس ردود الفعل الصادرة عن الجمهور للرسائل أو الخطابات الصادرة عن يلتسين أو المرشحين الآخرين . وقد استعملت أجهزة تحليل الإدراك الحسي لقياس اهتمامات وموافقة جمهور ما . وعندما ظن أعضاء قوة العمل الروس أن خطاباً ألقاه يلتسين كان فعالاً، وارتأت قوة العمل الأمريكية خلاف ذلك، تم حشدُ جَمْعٍ من 40 شخصاً روسياً وتم استعمال الأجهزة الخاصة بقياس ردود الفعل لهؤلاء الأشخاص الأربعين التي نقلت بواسطة الأجهزة الإلكتروينة لتظهر على شكل رسومات بيانية . وكانت النتيجة كما توقع الأمريكيون لغير صالح يلتسين . وقد أعرب الموظفون الروس عن دهشتهم إزاء ذلك وتأثرهم به . ومنذ تلك اللحظة لم يحد الموظفون الروس عن توجيهات وتعليمات قوة العمل الأمريكية ATF وأخذوا يتبعونها بإخلاص وتفان .

 

بدأت نتائج الاستطلاع بالتحسن، حيث أخذت الحملة بالتطور طبقاً لخطة ATF . وعندما تساءل مساعدو يلتسين في 5-5-1996 عن احتمال نجاحه، أو ضرورة تأجيل موعد إجراء الانتخابات أجابتهم قوة العمل الأمريكية ATF أن يلتسين يستطيع أن يضمن الفوز المؤكد، وأن من المتوقع أن يتفوق على منافسه الشيوعي بخمس نقاط . وعندما أجريت الانتخابات كانت نتائجها 35% لمصلحة يلتسين مقابل 32% لخصمه الشيوعي غينادي زيوغانوف Gennadi Zyuganov .

 

لقد بدأ زيوغانوف حملته الانتخابية وهو يخطو على نسبة 32% من الأصوات وأنهى حملته بالنسبة نفسها، إذ لم يكن لديه من يصنع له الرسوم والصور . أما يلتسين، الحقيقي، فقد حصل على 6% فقط من أصوات الناخبين عند بداية الحملة، وانتهى بنسبة 35% من الأصوات بعد أن أوجد صانعو الصور منه صورة جديدة . وإن صورة يلتسين، وليس يلتسين الحقيقي، هي من اختارها الناخبون . وعلى المنوال نفسه، فإنها صورة كلينتون وليس كلينتون الحقيقي، التي تم انتخابها . ويستطيع أصحاب الثروات والنفوذ إيجاد الصور الجميلة الجذابة عندما يشاؤون، وبنفس الاقتدار يمكنهم تشويه الصورة وجعلها مشوشه في الوقت الذي يختارون . ولذا فإن شاغلي الوظائف الذين يتربعون على المناصب مدينون لهؤلاء وليس للشعب في حصولهم على وظائفهم تلك، وهم بذلك مسؤولون تجاههم وليس تجاه الشعب . لقد تم تمويل حملة يلتسين من قبل طبقة الواحد في المئة الجديدة وأصحاب الثروات والنفوذ في روسيا . وكان من بين هؤلاء فلاديمير بوتانيين Vladimir Potanin، 37 سنة، الذي يسيطر على إمبراطورية تضم تحت لوائها البنوك والإعلام والصناعات التي يبلغ حجم مبيعاتها 10% من إجمالي الناتج المحلي لروسيا، وتهيمن طبقة بوتانيين الجديدة مع حفنة من رجال الأعمال الروس الجدد على نصف إجمالي الثروة الصناعية الروسية التي شيدتها الأيدي العاملة الروسية على مدى سبعين عاماً . لقد حصل هؤلاء على تلك الثروات من خلال الخطط الفاسدة ومن تلك خطط القروض مقابل الأسهم بأسعار بخسة تكاد تكون أقرب إلى السرقة . وقد أسند بوتانيين إلى نفسه منصباً في الحكومة التي تشكلت بعد الانتخابات، حيث تولى حقيبة وزير لشؤون رئاسة الوزراء . وقد مكث في هذا المنصب وقتاً يكفي لجعل الشركات تتخلف عن تسديد دفعات الديون المترتبة عليها حتى يستولي على أسهمها . وربما لم تطوّر الديمقراطية الروسية نفسها بحيث تستطيع تغليف نفسها وراء قناع مستتر على نحو تسمي معه "فرق الكذب Lie Squads كفرق الحقيقة Truth Squads"، ولكن الروس جادون في التعلم وينهلون من معين الديمقراطية الأمريكية، وقد أصبح صنع الصور الآن جزءاً من "الديمقراطية" الروسية .

 

وختاماً . . . . . . . .

 

كتب البروفيسور والكاتب الأمريكي الشهير "ليستر سي ثورو" في كتابه الصادر سنة 1996 وعنوانه "مستقبل الرأسمالية":

 

"إن الأنظمة المنافسة للنظام الرأسمالي من فاشية واشتراكية وشيوعية قد انهارت جميعها . ولكن، بالرغم من أن المنافسين قد أصبحوا طي الكتمان في كتب التاريخ فإن شيئاً ما يبدو وكأنه يهز أركان النظام الرأسمالي نفسه" .

 

وبعد ليستر سي ثورو بعشر سنين، كتب وليام غريدر، صاحب العديد من الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة، كتب في كتابه Come Home America ما جاء فيه:

 

"لدي أشياء قاسية أقولها عن وطني، ففيما وراء الركود الاقتصادي والأزمة المالية نحن في مشكلةٍ أعمق مما يفترض الكثير من الناس، أو مما ترغب السلطات في الاعتراف به . ولست أرى طريقاً لطيفاً لقول ذلك، فأمريكا كرقم واحد قد انتهت، فالولايات المتحدة تتجه للسقوط، وهو قصاص شديد، سيفرض على مجتمعنا تحولات مشوهة ومؤلمة، كما سيوجه لطماتٍ مذلة لكبريائنا الوطني، وقادني تفكيري في هذه الأشياء إلى الاستنتاج بأن أمريكا في أزمة أعمق مما يعتقد بشكلٍ عام، وبأن استعادة عافيتنا القومية سوف يقتضي تغيرّاً كبيراً . . تحولاً تاريخياً في طرائق عيشنا وعملنا، وكذلك في الطريقة التي نحكم بها" .

 

أما أنا فأقول إن هناك نظاماً عالمياً رأسمالياً في مرحلة احتضار، ونظاماً عالمياً جديداً يتشكل هذه الأيام، وعالمنا العربي والإسلامي هو أحد أكبر وأخطر مسارح صراعاته . لن يكون الوليد الجديد بمواصفات واشنطن ولا غيرها من القوى المتصارعة، وسيأتي من رحم قانون العواقب غير المحسوبة . أما ما يقال عن الحرية والديمقراطية فكلمة حق أريد بها باطل لا يصدقها سوى البلهاء .

( نشرت على خمس حلقات في صحيفة الخليج)

 

http://www.islamdaily.org/ar/scholars/11584.article.htm

مجموعة عبد العزيز قاسم البريدية. للاشتراك أرسل رسالة فارغة إلى: azizkasem2+subscribe@googlegroups.com - أرشيف الرسائل

 



 

 





 

 


--
--
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في مجموعة عبد العزيز قاسم البريدية.
 
يمكن مراسلة د. عبد العزيز قاسم على البريد الإلكتروني
azizkasem1400@gmail.com
(الردود على رسائل المجموعة قد لا تصل)
 
للاشتراك في هذه المجموعة، أرسل رسالة إلكترونية إلى العنوان التالي ثم قم بالرد على رسالة التأكيد
azizkasem2+subscribe@googlegroups.com
لإلغاء الاشتراك أرسل رسالة إلكترونية إلى العنوان التالي ثم قم بالرد على رسالة التأكيد
azizkasem2+unsubscribe@googlegroups.com
 
لزيارة أرشيف هذه المجموعة إذهب إلى
https://groups.google.com/group/azizkasem2/topics?hl=ar
لزيارة أرشيف المجموعة الأولى إذهب إلى
http://groups.google.com/group/azizkasem/topics?hl=ar
 
---
لقد تلقيت هذه الرسالة لأنك مشترك في المجموعة "مجموعة عبد العزيز قاسم البريدية (2)" من مجموعات Google.
لإلغاء اشتراكك في هذه المجموعة وإيقاف تلقي رسائل إلكترونية منها، أرسِل رسالة إلكترونية إلى azizkasem2+unsubscribe@googlegroups.com.
للمزيد من الخيارات، انتقل إلى https://groups.google.com/groups/opt_out.
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق